في سنة (136هـ=753م) بدأ عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) يُعِدُّ العُدَّةَ لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:
أولاً: أرسل مولاه بدرًا إلى الأندلس
لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثِّرة في الحُكم فيها، فلقد كانت الأندلس
في تنازع بين اليمنية –وزعيمهم أبو الصباح اليحصبي- والقيسية -وزعيمهم أبو
جوشن الصميل بن حاتم- وهم الذين كانوا عمادًا لدولة عبد الرحمن بن يوسف
الفهري[1].
ثانيًا: راسل كلَّ محبِّي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر[2]، والحقُّ أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يُحِبُّون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان t على الشام في خلافة عمر بن الخطاب t، وفي خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب-رضي
الله عنهم جميعا، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبُّون بني أمية
حبًّا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مَرِّ العصور بالسخاء والسياسة
والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحُسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله، ونشر
الدين، وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المؤيدين،
والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل المختلفة.
ثالثًا: راسل كلَّ الأمويين في الأندلس يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم[3].
كانت الخطوة المؤثِّرة التي نجح فيها بدر[4]
–مولى عبد الرحمن الداخل- هو وصوله إلى موالي بني أمية في الأندلس، وشيخهم
أبو عثمان، ومن خلالهم حاول التحالف مع القيسية، إلاَّ أن الصميل بن
حاتم -وقد كان زعيم القيسية الذين كانوا عماد الفهري- عَبَّر بوضوح عن
مخاوفه من وجود أمير أموي في البلاد، فوَضْع القيسية حينئذٍ لن يكون كما هو
في ظلِّ الفهري الذي يستطيعون أن يأخذوا منه ويَرُدُّوا عليه[5]. فذهبوا إلى اليمنية فرضوا وتمَّ لهم الأمر.
وإذًا، فقد نجح بدر في مهمته، فأرسل رسولاً إلى عبد الرحمن يقول له: إن
الوضع أصبح جاهزًا لاستقبالك هناك. وحينما سأله عن اسمه، قال: تمام. قال:
وما كنيتك؟ قال: أبو غالب. فقال: الله أكبر! الآن تمَّ أمرنا، وغَلَبْنَا
بحول الله تعالى وقوته[6]. وبدأ يُعِدُّ العُدَّةَ، ويجهِّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.
عبد الرحمن الداخل في الأندلس
نزل عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله
هناك مولاه بدر، وكان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن
الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورةً من الثورات[7].
وبمجرَّد أن دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس بدأ يُجَمِّع الناس من
حوله؛ محبِّي الدولة الأموية، والأمازيغ (البربر)، وبعض القبائل المعارضة
ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما كان قد وصلت إلى الأندلس فلول من
الأمويين الهاربين، إلى جانب التحالف المأخوذ مع اليمنية.
كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرُّ
الرئيس لهم في إِشْبِيلِيَة، وهي المدينة الكبيرة التي كانت تُعَدُّ حاضرة
من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى
إِشْبِيلِيَة، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، فبايعه أبو الصباح[8].
وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية عدَّة رسائل إلى يوسف بن عبد
الرحمن الفهري يطلب وُدَّه، وأن يُسَلِّم له الإمارة، ويكون الفهري رجلاً
من رجاله في بلاد الأندلس، بحُكْمِ أنه حفيد هشام بن عبد الملك[9]، لكن يوسف الفهري رفض ذلك، وجهَّز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومَنْ معه.
موقعة المصارة
من المؤسف حقًّا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة
الفتن والانقلابات جعلت الحلَّ العسكري هو الحلَّ الحتمي في ذلك الوقت؛ ففي
(ذي الحجة 138هـ=مايو 756م) وفي موقعة كبيرة عُرِفت في التاريخ باسم موقعة
المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من
جهة ومعه القيسية، وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد في الأساس على
اليمنيين من جهة أخرى[10].
وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض
المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن
معه فرسًا عظيمًا أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال، ويتركنا
وحدنا للفهريين.
وقد وصلت عبدَ الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق
سنَّ الخامسة والعشرين، وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي، وقال له: إن
جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكِّنُنِي من الرمي، فإن أردت أن تأخذه
وتعطيَني بغلتك فعلت. فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يُقاتل عليها،
وحينئذٍ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يُريد الهرب، إنما هو مسلك
مَنْ يُريد الموت في ساحة المعركة[11].
ودارت معركة قوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرَّ يوسف الفهري[12].
عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء
كانت عادة المحاربين أن يَتَّبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين
والفارِّين؛ ليقتلهم ويقضي عليهم؛ ومن ثَمَّ يقضي على ثورتهم، وحين بدأ
اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد
الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، أمارةً
على علمه ونبوغه، وفهمٍ صحيح، وفكرٍ صائب في تقدير الأمور؛ قال لهم: «لا
تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم»[13].
يُريد –رحمه الله- أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيُصبحون غدًا من
جنودنا؛ ومن ثَمَّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في
ليون وفرنسا وغيرها، فهكذا –رحمه الله- كان ذا نظرة واسعة جدًّا تشمل كل
بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوربا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن
يُعِيد مُلك الشام بعد ذلك -أيضًا- إلى أملاك الأمويين؛ وذلك لما يلي:
أولاً: ليس في قلبه غلٌّ ولا حقدٌ على مَنْ كان حريصًا على قتله منذ سويعاتٍ قلائل.
ثانيًا: الفهم العميق للعدوِّ الحقيقي وهو النصارى في الشمال.
ثالثًا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلاَّ أنه كان يمتلك فهمًا
واعيًا، وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، عَلِمَ به أنه إن جاز
له أن يُقَاتِلهم لتوحيد البلاد تحت راية واحدة، فهو في الوقت ذاته لا
يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارِّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على
جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكمَ
المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يُتَتَبَّع الفارُّ منهم، ولا
يُقتَلُ أسيرُه، ولا يُجهَزُ على جريحه، بل ولا تُؤخَذ منه الغنائم[14].
وكانت الهزيمة بالغة، حتى إن عبد الرحمن الداخل لم يجد أحدًا في طريقه
إلى قصر الحكم في قُرْطُبَة، وسيطر جنوده على ما في يد جنود يوسف من
الأسلحة والمتاع وما إلى ذلك، إلاَّ أن بعض الناس حاول انتهاب قصر يوسف
الفهري نفسه وسبي أولاده وحريمه، فسارع وطرد الناس، وكسا من عَرِي من أولاد
يوسف، وردَّ ما قدر على ردِّه، وهنا غضبت اليمنية وساءهم ذلك حين لم
يستطيعوا أن ينتقموا من يوسف في أولاده ونسائه، وداخلهم أن عبد الرحمن
الداخل تعصب لنسبه المضري[15].
وأقام عبد الرحمن بن معاوية الداخل بظاهر قُرْطُبَة ثلاثة أيام، حتى
يترك الفرصة لأهل يوسف الفهري أن يجمعوا أمرهم وأن يخرحوا بأمان، فكان هذا
بداية عفافه وحسن سيرته في الأندلس[16].
بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي
ومن المفارقات أنه بعد انتهاء موقعة المصارة وحين لم يرضَ عبد الرحمن
بانتهاب قصر يوسف الفهري ولا سبي أولاده، غضب أبو الصباح اليحصبي زعيم
اليمنية، وفكر في أن ينقلب على عبد الرحمن بن معاوية نفسه، وكان مما قال:
«يا معشر يمن؛ هل لكم إلى فتحين في يوم، قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل
هذا الفتى المقدام ابن معاوية؛ فيصير الأمر لنا، نقدِّم عليه رجلاً منا،
ونحل عنه هذه المضرية». فلم يجبه أحد لذلك[17].
ووصلت هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلاَّ أن
أسرَّها في نفسه، ولم يُبْدِها لهم، ولم يُعلِمْهم أنه يعلم ما يُضْمِرُونه
له؛ لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي[18].
لم يُرِدْ عبد الرحمن بن معاوية أن يُحدث خللاً في الصفِّ المسلم في هذه
الأوقات، ولم يُرِدْ أن يُحْدِثَ خللاً بين الأمويين ومحبِّي الدولة
الأموية وبين اليمنيين، في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية؛
إنما كان كلُّ هَمِّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وبعد
إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل عبدُ الرحمنِ أبا الصباح اليحصبي عن
مكانه، واستطاع أن يمتلك زمام الأمور كلها في الأندلس [19].
[2] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/239، وابن كثير: البداية والنهاية، 10/80.
[3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/ 123.
[4] الحقيقة أن بدرًا مولى عبد الرحمن
الداخل من أكثر الشخصيات تأثيرًا في قصة الداخل هذه، وله دور كبير منذ لحظة
الهروب من الشام ثم قيامه بالسفارة لعبد الرحمن في أمر من أخطر الأمور؛
مثل: توليه الأندلس وتوثيقه للتحالف، ثم سيصير قائد جيوش عبد الرحمن، ثم
سينتهي نهاية مأساوية وغامضة، دون أن يعرف أحد الأسباب الحقيقية مما يثير
حيرة المؤرخين، إلى جانب أن المعلومات المعروفة عنه قليلة جدًّا.
[5] هذا نص كلامه: «إني رويت في الأمر
الذي أدرته معكما، فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم
بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، وهذا رجل نتحكم عليه ونميل على
جوانبه ولا يسعنا بدل منه». المقري: نفح الطيب 3/30.
[6] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/31.
[7] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص73، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/42، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/123.
[9] المصدر السابق، 5/123، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
[10] مجهول: أخبار مجموعة، ص80، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
[11] مجهول: أخبار مجموعة، ص82.
[12] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
[13] المقري: نفح الطيب، 3/42.
[14] انظر: القاضي أبو يعلى الفراء:
الأحكام السلطانية، ص55، ويوسف القرضاوي: فقه الجهاد، ص1011، وسعود بن عبد
العالي البارودي العتيبي: الموسوعة الجنائية الإسلامية ص183.
[15] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84.
[16] المقري: نفح الطيب 3/34.
[17] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
[18] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
إرسال تعليق