0
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] هنا يقف الحسن البصري وقفة فيقول رحمه الله: (سبحانك ربنا ما أحلمك وما أرحمك! قوم بطشوا بعبادك المؤمنين، وخدوا لهم الأخاديد، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، وتفتح لهم باب التوبة. إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دليل على أنهم لو تابوا لقبلت توبتهم، فعلى ذلك: من زلت قدمه في مسألة، فلا ينبغي أن تهدر جميع حسناته بجانب هذه المسألة التي زلت فيها قدمه إن فتح له باب التوبة، فهؤلاء قتلوا الناس وحرقوهم وجلسوا على شفير النيران يتفرجون عليهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عليهم، وفي عدة آيات من كتاب الله كلما ذكرت كبيرة من الكبائر أو جريمة من الجرائم أتبعت بفتح باب التوبة؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:68-70] قتل، زنى، أشرك، لكن إذا تاب تاب الله سبحانه وتعالى عليه. قل ذلك لمضيع الصلاة ومتبع الشهوات حتى يتوب، فإن تاب قبلت توبته، وهذه قاعدة أصيلة من قواعد ديننا الحنيف السمح، وهذا من رحمة الله ربنا بنا، كما قال الله سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)، وفي الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، وفي الحديث: (إن إبليس قال لربه سبحانه: وعزتك! لا أبرح أغوي العباد ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي! لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني). وهكذا فكل من أذنب فليعلم أن باب التوبة مفتوح للتائبين، قال تعالى: قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] فلا ينبغي أبداً أن يقنط أحد من رحمة الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، (فتنوا). أصل الفتنة: الاختبار بالنار، ثم أطلق لفظ الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه وسوء، كما قال الشاعر: لئن فتنتي لهي بالأمس أفتنت.. سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى.. وصال الغواني بالكتاب المتيم. فالفتنة في الأصل: الاختبار بالنار، ثم أطلقت الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه أو سوء. وتطلق الفتنة على الشرك، وتطلق على الصرف والإضلال فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات:161-162] أي: بمذلين، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:163].

أقوال العلماء عند تكرار العذاب في الايه



قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] ما هو وجه قوله (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)، واتباعه بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)؟ من أهل العلم من قال: هما عذابان: عذاب جهنم للكفر، وعذاب إضافي وهو: عذاب الحريق مقابل تحريقهم لأهل الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النحل:88] فهم فعلوا شيئين: كفروا، وصدوا عن سبيل الله، زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، فعذاب على الكفر، وعذاب للصد عن سبيل الله. وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:12-13] فأثقال للكفر، وأثقال مع أثقالهم للإغواء والإضلال. فمن العلماء من قال: هما عذابان: عذاب جهنم للكفر، وعذاب الحريق نتيجة تحريق المؤمنين. ومن أهل العلم من قال: إن المراد بعذاب جهنم الأولي في قوله تعالى: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ): الزمهرير. قال تعالى: (عَذَابُ الْحَرِيقِ)، الذي هو التعذيب بالنار، فعليه هم يعذبون عذابا بالزمهرير الذي هو البرد الشديد، ثم يتبع الزمهرير بالحريق الذي هو النار، كما قال سبحانه: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57]. (حميم): انتهى حره وبلغ الدرجة العليا من الحر، و(غساق): بلغ المنتهى في البرودة. ومن أهل العلم من سلك مسلكاً آخر، فقال: لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، قال: فإن النار التي أضرموها وألقوا فيها أهل الإيمان تطاير عليهم شررها فأحرقهم. فعلى هذا القول الأخير، يرد التعكير على قول من قال: من الكتاب أو المؤلفين أن كل قوم مجرمين ذكرت عقوبتهم الدنيوية في كتاب الله إلا أصحاب الأخدود فلم تذكر لهم عقوبة في الدنيا، وادخر لهم العذاب في الآخرة، فثم قول يثبت -وهو قول من أقوال العلماء وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم- أن الذين خدوا الأخاديد للناس أحرقوا بشررها في الدنيا؛ لهذه الآية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
للشيخ : ( مصطفى العدوي )

إرسال تعليق

 
Top