0
بقلم: أبي صهيب الحايك.
إنّ كثيراً من الأحاديث النبوية الشريفة التي تملئ الكتب يقرأها الناس دون التفكر فيها والاستدلال بها وتفعيلها على أرض الواقع في كلّ زمانٍ ومكانٍ.
فقد ثبتَ في «صحيح البخاري» (2/833) من حديث ابن أبي مُليكة، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، فقال: «دَنت مني النار حتى قلت، أي ربّ، وأنا معهم، فإذا امرأة حسبت أنه قال: تخدشها هرة. قال: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً».
وثَبت هذا أيضاً في «الصحيحين» من حديث نافع عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض».
وفي رواية ابن حبان في «صحيحه» (12/439) من حديث عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو: «وعُرضت عليّ النار فلولا أني دفعتها عنكم لغشيتكم، ورأيت فيها ثلاثة يعذبون: امرأة حِميرية سوداء طويلة تعذب في هرة لها أوثقتها، فلم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولم تطعمها حتى ماتت، فهي إذا أقبلت تنهشها وإذا أدبرت تنهشها».
وقد بوّب النووي على هذا الحديث عند شرحه لصحيح مسلم: «باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي».
وبوّب ابن حبان: «ذكر الخبر الدال على أنّ المسيء إلى ذوات الأربع قد يتوقع له دخول النار في القيامة بفعله ذلك».
وبوّب البخاري في «الأدب المفرد»: «باب رحمة البهائم».
وعلى هذا فإن النّار تجب لمن حبس هرة أو حيواناً ومنعه من الطعام حتى مات جوعاً! فكيف من يحبس شعباً بكامله؟!! يمنع عنهم الطعام والشراب! وكم من طفل مات أثناء حصار هذه الشعوب، وكم من امراة وشيخ ماتوا جوعاً نتيجة ذلك؟! فمن الذي تسبب في موتهم؟!فمن يفعل ذلك فإن مأواه النار لا محالة.
وهذا هو حكم الله ورسوله.
وهذا الحديث يتضمن معانٍ كثيرة، وهو أصل في احترام الإنسان والمحافظة على حياته، وفيه وعيد شديد من الله عزّ وجلّ لمن آذى عباده؛ لأن الإنسان أكرم عند الله من الحيوان...
وانظر إلى فقه الإمام الزهري – رحمه الله – حيث روى مسلم في «صحيحه» (4/2110) من حديث معمر قال: قال لي الزهري: ألا أحدثك بحديثين عجيبين، قال الزهري: أخبرني حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم أذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه به أحداً. قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب أو قال مخافتك، فغفر له بذلك».
قال الزهري: وحدثني حميد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً».
قال الزهري: "ذلك لئلا يتّكل رجل ولا ييأس رجل".
هذا هو فقه الزهري لهذه الأحاديث: لئلا يتكّل رجل على رحمة الله فيظن أنه بفعله لن ينال عذابه، ولئلا ييأس رجل من رحمته فيظن أنه لن يغفر له.
فأين هؤلاء الذين يجوّعون عباد الله حتى يموتوا؟ أين هم من خشية الله؟!
وانظر إلى الصورة المقابلة لهذا الحديث:
حديث عظيم آخر في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما كلبٌ يطيف برَكِيّة كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنـزعت موقها فسقته، فغفر لها به».
فهما امرأتان: الأولى لم يُذكر أنها عصت، ولكنها حبست الهرة وماتت من الجوع، فغضب الله عليها، وأدخلها بسبب ذلك النار، والثانية بغي لها معصية، ولكنها سقت الكلب، فشكر الله لها فغفر لها وأدخلها الجنة.
هذه هي رحمة الله بخلقه، فكيف بمن كرّمهم؟! {إنّا كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر}.
إنّ الذين يؤذون عباد الله وأولياءه لهم خزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
·       دعوى من قال بأن المرأة التي دخلت النار كانت كافرة!
قرأت في بعض «المنتديات» تخريجاً مطولاً لهذا الحديث لأحد الإخوة الذين يكتنون بـ «أبي فلان» ولا يُعرف من هو!!، وأثبت أن هذه المرأة كانت كافرة! وعنوانه مقاله: «إكرام الأبرار بتخريج مسهب لطرق حديث دخلت امرأة النار وتحقيق أنها كانت كافرة ومعه بيان»!
واحتج على ذلك بما رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (ص199) قال: حدثنا صالح بن رستم أبو عامر الخزاز، قال: حدثنا سيار أبو الحكم، عن الشعبي، عن علقمة، قال: كنا عند عائشة فدخل عليها أبو هريرة، فقالت: يا أبا هريرة، أنت الذي تحدّث: «إن امرأة عذبت في هرة لها ربطتها لم تطعمها ولم تسقها»؟
فقال أبو هريرة: "سمعته منه"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت عائشة: "أتدري ما كانت المرأة؟ قال: لا. قالت: إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، إن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر كيف تحدِّث".
ورواه الإمام أحمد في «مسنده» (2/519) عن أبي داود الطيالسي به. وأورده الزركشي في كتاب «الإجابة فيما استدركنه عائشة على الصحابة»!
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/116): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".
وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط أثناء تعليقه على المسند: "إسناده حسن".
وقد مالَ إلى كونها كافرة بعض أهل العلم كالقاضي عياض!!
وقال ابن حجر في «الفتح» (6/358) أثناء شرحه للحديث: "قال النووي: الذي يظهر أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بهذه المعصية، كذا قال! ويؤيد كونها كافرة ما أخرجه البيهقي في البعث والنشور وأبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث عائشة، وفيه قصة لها مع أبي هريرة، وهو بتمامه عند أحمد" انتهى.
·       تفرد صالح بن رستم بذكر القصة بين عائشة وأبي هريرة! وأن المرأة كانت كافرة!
قلت: هذه القصة باطلة ولم تصح!! وما كان ينبغي للحافظ ابن حجر السكوت عليها! والحديث عند الطيالسي في «مسنده» وأحمد إنما خرجه من طريقه كما سبق بيانه.
وهي قصة تفرد بها صالح بن رستم، وتفرده هذا لا يُحتمل. وهي مُعارضة بعدم تفرد أبي هريرة بهذا الحديث، فإن أسماء بنت أبي بكر وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو قد رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا أن المرأة كانت كافرة.
وصالح هذا وثقه بعض أهل العلم كأبي داود، وقال فيه أحمد: "صالح الحديث"، ووثقه أبو داود الطيالسي.
وضعفه جمع من أهل العلم. فقال ابن معين: "ضعيف"، وقال مرة: "لا شيء".
وقال ابن أبي شيبة: سألت ابن المديني عنه؟ فقال: "كان يحدّث عن ابن أبي مليكة، كان ضعيفاً، ليس بشيء".
·       حالُ صالح بن رستم، وتفسير قول أحمد وأبي حاتم فيه:
وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/403): سألت أبي عن أبي عامر الخزاز؟ فقال: "شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به، هو صالح، وهو أشبه من ابنه عامر".
قلت: وقوله "صالح" يعني في دينه وهو ممن لا يُتهم، ولكنه ضعيف في الحديث. وقول أبي حاتم: "يكتب حديثه" أي يُعتبر به، وهذا معنى كلام الإمام أحمد "صالح الحديث"، يُعتبر بحديثه ولكن لا يُحتج بما انفرد به.
وتوثيق الطيالسي له لا يُعتد به؛ لأنه ليس من أهل النقد في الرّجال، وقد خالفه من هو أعلم منه بالرجال.
قال ابن حبان في «مشاهير علماء الأمصار» (ص151): "صالح بن رستم من الحفاظ الذين كانوا يخطؤون".
وقال ابن عدي في «الكامل» (4/72) بعد أن ذكر له بعض الأحاديث التي أخطأ فيها: "ولأبي عامر غير ما ذكرت، وهو عزيز الحديث من أهل البصرة، ولعل جميع ما أسنده خمسين حديثاً، وقد روى عنه يحيى القطان مع شدة استقصائه، وهو عندي لا بأس به، ولم أر حديثاً منكراً جداً".
قلت: ومفهوم ذلك أن له مناكير ولكن ليست شديدة النكارة عند ابن عدي.
وقال ابن حجر في «التقريب» (ص272): "صدوقٌ كثيرُ الخطأ".
·       جُلّ أحاديث صالح بن رستم تحوي قصصاً!!
قلت: وقد لاحظت أنّ صالح بن رستم هذا له أحاديث كثيرة من هذه البابة، أي ورود قصة في الأحاديث التي يرويها!!
ففي «مسند الطيالسي» (ص321) عن صالح بن رستم عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة: «أن رجلاً أسود وامرأة سوداء كانت تنقى الأذى من المسجد فدفنت...».
وفي «المستدرك» (1/62) عن صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: «جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية...».
وفيه أيضاً (1/209) عن صالح بن رستم عن حميد بن هلال عن عبدالرحمن بن قرط قال: «دخلت المسجد فإذا حلقة كأنما قطعت رؤوسهم...».
وفيه (1/451) عن صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: «أقيمت الصلاة فقمت أصلي الركعتين فجذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم...».
وفيه (4/240) عن صالح بن رستم عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر...».
وفي «صحيح ابن حبان» (3/145) عن صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل بيته...».
وفي «سنن البيهقي الكبرى» (8/149) عن صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: «لما ثقل أبي دخل عليه فلان وفلان، فقالوا يا خليفة رسول الله ماذا تقول لربك غداً إذا قدمت عليه...».
وفي «مصنف ابن أبي شيبة» (5/186) عن صالح بن رستم قال: حدثنا حميد بن هلال قال: حدثني الأحنف بن قيس قال: «قدمت المدينة فدخلت مسجدها فبينا أنا أصلي إذ دخل رجل طويل آدم أبيض...».
وفيه أيضاً (7/244) عن صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة قال: «صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة فكان...».
وفي «مسند أبي يعلى» (5/199) عن صالح بن رستم عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال: «خرجنا معه إلى الحرم فحضرت الصلاة فقال...».
قلت: فأحاديثه هذه يلاحظ أن فيها قصص: «دخلت» أو «دخلنا»، أو «قدمت»، أو «خرجنا»، وغير هذه العبارات التي تدلّ على حرص أبي عامر هذا على تتبع هذه الأحاديث، وكأنه من هنا أُتي فكان يخطئ، ولم يكن قوياً في الحديث، فلا يحتج به، فكيف إذا تفرد بحديث يخالف ما في الصحيحين؟!!
وعليه فإن هذه المرأة الظاهر أنها كانت مسلمة ولم تكن كافرة.
·       نعقّب الإمام النووي للقاضي عياض:
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (6/207): "قال القاضي – أي عِياض -: في هذا الحديث المؤاخذة بالصغائر. قال: وليس فيه أنها عذبت عليها بالنار، قال: ويحتمل أنها كانت كافرة فَزِيدَ في عذابها بذلك، هذا كلامه وليس بصواب، بل الصواب المصرّح به في الحديث أنها عذبت بسبب الهرة، وهو كبيرة؛ لأنها ربطتها وأصرت على ذلك حتى ماتت، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة كما هو مقرر في كتب الفقه وغيرها، وليس في الحديث ما يقتضي كفر هذه المرأة".
وقال في موضعٍ آخر من كتابه (14/240): "وأما دخولها النار بسببها فظاهر الحديث أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بسبب الهرة، وذكر القاضي أنه يجوز أنها كافرة عذبت بكفرها، وزِيدَ فى عذابها بسبب الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر، هذا كلام القاضي! والصواب ما قدمناه أنها كانت مسلمة، وأنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث، وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة".
قلت: نعم، الصواب أنها كانت مسلمة وليست كافرة، والقصة التي رواها صالح بن رستم في أنها كانت كافرة قصة منكرة باطلة.

وكتب: خالد الحايك.
15 صفر 1430هـ.

إرسال تعليق

 
Top