0

رقم الحديث: 292
(حديث مرفوع) ح نَصْرُ بْنُ الْفَتْحِ ، قَالَ . ح أَبُو عِيسَى ، قَالَ : ح هَنَّادٌ ، قَالَ . ح وَكِيعٌ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ وَهُوَ الرَّقَاشِيُّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ " ، قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الْحَدِيثِ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : التَّرْغِيبُ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالإِعْرَاضِ عَنْهَا ، وَالرَّغْبَةُ فِي الآخِرَةِ وَالإِقْبَالُ عَلَيْهَا ، وَالتَّشْجِيعُ فِي تَرْكِ الدُّنْيَا بِمَعْنَى الإِنْفَاقِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ ، وَالإِعْرَاضُ عَنْهَا مِمَّنْ لَيْسَتْ عِنْدَهُ ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا ، وَأَقْبَلَ عَلَى الآخِرَةِ ، رُزِقَ الْفَرَاغَ وَالتَّنَعُّمَ وَجَمْعَ الشَّمْلِ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا أَيِ الرِّفْقُ فِيهَا وَالْمَهْنَأُ مِنْهَا فَيَكُونُ لَهُ الْمَهْنَأُ دُونَ الشُّغُلِ ، وَالرِّفْقُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فَهُوَ غَنِيٌّ وَإِنْ عَدِمَ الْقُوتَ ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنِ الآخِرَةِ شُغِلَ بِمَا لا يَجْرِي ، وَتَعِبَ فِيمَا لا يُغْنِي ، فَتَزْدَادُ الدُّنْيَا عَنْهُ بُعْدًا ، لأَنَّهُ لا يُصِيبُ مِنْهَا إِلا الْمَقْدُورَ ، وَالْمَقْدُورُ لا يُغْنِيهِ ، وَإِنْ كَثُرَ لِغَلَبَةِ الْحِرْصِ عَلَيْهِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ . تَعَبُ الطَّلَبِ ، وَالْخَيْبَةُ فِي التَّعَبِ ، فَهُوَ فَقِيرٌ وَإِنْ مَلَكَ الدُّنْيَا . وَالْمَعْنَى الآخَرُ : تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ ، وَأَنَّهُ أَسِيرُ الْقُدْرَةِ سَلِيبُ الْقَبْضَةِ ، وَإِنَّ أَفْعَالَهُ تَبَعٌ لِفِعْلِ اللَّهِ بِهِ ، وَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَأْخُوذًا عَنْ أَوْصَافِهِ ، وَمَصْرُوفًا عَنْ نَظَرِهِ إِلَى أَفْعَالِهِ مُعْتَرِفًا بِعَجْزِهِ ، مُقِرًّا بِاضْطِرَارِهِ ، عَالِمًا بِضَرُورَتِهِ وَافْتِقَارِهِ ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : إِنَّمَا تَكُونُ الآخِرَةُ هَمَّهُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغَنَاءَ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، لأَنَّهُ لا يُقْبِلُ عَلَى الآخِرَةِ إِلا مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الدُّنْيَا حِجَابُ الآخِرَةِ فَإِذَا رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْ بَصَرِ الْقَلْبِ رَأَى الآخِرَةَ بِعَيْنِ إِيقَانِهِ ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الآخِرَةِ شُغِلَ عَنِ الدُّنْيَا ، صَارَتْ مَرْفُوعَةً مِنْهُ مَتْرُوكَةً عَنْهُ ، قَالَ حَارِثَةُ : عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ . فَمَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ فِيهَا ، وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا صَارَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ ، لأَنَّ الإِنْسَانَ حَرِيصٌ ، وَالنَّفْسَ رَاغِبَةٌ , إِمَّا تَرْغَبُ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ إِلَى الآخِرَةِ ، فَإِذَا حُجِبَتْ عَنِ الدُّنْيَا بِالْعُزُوفِ عَنْهَا ، وَالاسْتِغْنَاءِ مِنْهَا افْتَقَرَتْ إِلَى الآخِرَةِ ، وَرَغِبَتْ فِيهَا . قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا أَفْضَتِ الْخِلافَةُ إِلَيْهِ : قَدْ زَهِدْتَ فِي الدُّنْيَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ أَنْفُسَنَا تَوَّاقَةٌ تَاقَتْ إِلَى الدُّنْيَا ، فَلَمَّا أَصَابَتْهَا تَاقَتْ إِلَى الآخِرَةِ . فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغَنَاءَ فِي قَلْبِهِ وَجَعَلَ لَهُ ، يَسَّرَهُ بِالاسْتِغْنَاءِ عَنِ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا صَارَتْ هِمَّتُهُ الآخِرَةَ وَمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا ، وَالرِّفْقِ فِيهَا ، يَأْتِيهِ فِي رَاحَةٍ مِنْ بَدَنِهِ وَفَرَاغٍ مِنْ سِرِّهِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : " رَاغِمَةٌ " ، أَيْ تَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لَهَا ، لأَنَّهَا قَلَّ مَا يُؤْتَى طِلابُهَا إِلا بِجَهْدٍ وَطَلَبٍ لَهَا حَثِيثٍ ، فَإِذَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَكَأَنَّهَا جَاءَتْ رَاغِمَةً صَاغِرَةً ذَلِيلَةً ، وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ إِلَى الدُّنْيَا حَجَبَهُ عَنِ الآخِرَةِ بِمَيْلِهِ إِلَى الدُّنْيَا ، صَارَتِ الدُّنْيَا نَصْبَ عَيْنَيْهِ ، وَالدُّنْيَا فَقْرٌ كُلُّهَا ، لأَنَّ حَاجَةَ الرَّاغِبِ فِيهَا لا تَقْتَضِي , فَهِيَ الْعِطَاشُ كُلَّمَا ازْدَادَ شَرَابًا ازْدَادَ عَطَشًا ، فَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ صَارَ الْفَقْرُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَقُرَ سِرُّهُ وَاخْتَلَفَتْ طُرُقُهُ ، وَتَشَتَّتَ هِمَّتُهُ ، وَتَعِبَ بَدَنُهُ ، وَشَرِهَتْ نَفْسُهُ ، وَازْدَادَتِ الدُّنْيَا عَنْهُ بُعْدًا ، لأَنَّهُ لا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلا الْمَقْدُورُ ، وَالْمَقْدُورُ مِنْهَا لا يُغْنِيهِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَكُلٌّ لا يَفُوتُهُ مَقْدُورُهُ مِنَ الدُّنْيَا . نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَلَى مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : مَنْ أَهَمَّتْهُ الآخِرَةُ فَلْيَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي وَضْعِ الْغَنَاءِ فِي قَلْبِهِ حَتَّى رَفَضَ الدُّنْيَا ، وَأَقْبَلَ عَلَى الآخِرَةِ ، وَمَنْ أَهَمَّتْهُ الدُّنْيَا فَلْيَفْتَقِرْ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَإِزَالَةِ الْفَقْرِ مِنْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَالْحِرْصِ مِنْ قَلْبِهِ : وَالتَّعَبِ مِنْ بَدَنِهِ ، وَالشُّغُلِ مِنْ قَلْبِهِ . فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دَلَّ عَلَى الافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي الأَحْوَالِ كُلِّهَا فِيمَا يَرْضَى بِالْحَمْدِ لَهُ ، وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ مِنْ عِنْدِهِ ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهِ ، فَقَدْ قَالَ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وَقَالَ : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ سورة إبراهيم آية 7 وَفِيمَا يَكْرَهُ بِالاسْتِغْفَارِ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي نَقْلِ مَا يَكْرَهُ ، لا مَا يُحِبُّ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا { 10 } يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا سورة نوح آية 10-11 وَقَالَ تَعَالَى فِي الاسْتِغَاثَةِ بِهِ : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ سورة النمل آية 62 .

إرسال تعليق

 
Top