0
أ.حســــان أحمد العماري
Hassan3f@gmail.com


 بسم الله الرحمن الرحيم


لقد اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى عندما خلق البشر أن تختلف أفكارهم وآمالهم و طموحاتهم وأنماط حياتهم ومستوى معيشتهم بل حتى في قدراتهم الفكرية والعقلية والجسمية و يختلفون ايضاً في ذوقياتهم وطعامهم وملابسهم وصورهم وألسنتهم قال تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم: 22) بل حتى على مستوى أصابع الإنسان وبنانه فلا يوجد إنسان على وجه الأرض بصماته تطابق أحد من الناس ولو كان أخاه لأمه وأبيه قال تعالى (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3-4) ولهذا كان سر الله سبحانه وتعالى في الحياة والخلق وجود هذا التنوع الذي جعله في الحياة قدراً، وكتبه في الدين شرعاً، فالناس يختلفون وتتباين وجهات نظرهم وأفكارهم قال تعالى ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (هود 118/119) وقال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ (المائدة: 48). فالرجل في بيته كثيراً ما يختلف مع زوجته وأولاده حول البيت وأوضاع المعيشة والموظف يختلف مع زملائه ومرؤوسيه في طريقة إدارة الأعمال وإنجاز المشاريع والعلماء قد يختلفون في فهم النص الشرعي وبيان حكمه ودلالاته في فروع الشريعة المختلفة والسياسيون والاقتصاديون قد يختلفون في تشخيص الأزمات وبيان أسبابها وطرق علاجها والمربون وعلماء السلوك قد يختلفون في السبل والطرق التي تؤدي إلى تهذيب الأخلاق وتعديل السلوك ... وهكذا هي سنة الحياة في جميع جوانبها ذلك أن الحياة بدون اختلاف رتيبة مملة, وتخيلوا أن كل شيء في الحياة مثل بعضه .. أشكال الناس وصورهم، كلماتهم و لباسهم، حركاتهم وتصرفاتهم، الطرق والبيوت والأشجار والأحجار، كلها لو كانت نمطاً واحداً لكانت جحيماً لا تطيقه النفوس قال تعالى ( " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏."‏( ‏القصص‏71‏ /‏73) إن الاختلاف المحمود والذي ينبغي أن نحسن التعامل معه وعلى الجميع أن يستوعبه هو ذلك الاختلاف الذي تتنوع فيه الآراء والأفكار والمقترحات والتصورات في فروع الشريعة وجوانب الحياة والعلاقات والمعاملات دون أن ينتج عن ذلك بغضاء ولا شحناء ولا عداوة ولا قطيعة ولا استبداد بالرأي وهو ذلك الاختلاف الذي يقود إلى النجاح ويحقق الأهداف وتثمر عنه الإنجازات ويبحث فيه الناس عن الأصوب والأفضل من الآراء والأفكار والمقترحات ، والاختلاف المحمود هو ذلك الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية ويسمع فيه كل طرف من الآخر وتحفظ فيه الحقوق وتصان فيه الأعراض ... ما أجمل خلق الرسول صلى الله عليه وسلم مع معارضيه ومخالفيه في الدين والعقيدة !، فهذا عتبة بن ربيعة ترسله قريش مفاوضًا وعارضًا على الرسول (صلى الله عليه وسلم) المال والسيادة والعلاج إن كان به مرضٌ أو مسٌّ من الجن، وهو يُصغي إليه دون مقاطعة، حتى إذا ما انتهى من كلامه الذي يعرف الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كلام باطل سخيف، ولكنه أدب الاختلاف الذي التزمه، ليسمع للرأي الآخر دون مقاطعة، قال له: "يا أبا الوليد.. أَفَرَغتَ من كلامك؟!" فقال: نعم، قال: "إذن اسمع ما أقول" وأخذ يرتل عليه آيات من القرآن، حتى عاد إلى قومه بغير الوجه الذي جاء به .

إن للاختلاف في الآراء ووجهات النظر والمواقف والأحداث آداباً ينبغي الإلتزام بها والتعامل بها حتى تكون سلوكاً وثقافة في الحياة تتربى عليها الأمة وتنهض من خلالها وتقوى روابطها ويدم ودها مهما تعددت الآراء وتباينت المواقف .. نتربى على هذه الآداب حتى لا تستمر الأمه على ما هي عليه اليوم من الاختلاف المذموم الذي أوغر الصدور وقطع العلاقات واستبد كل إنسان برأيه وأصبح الإنتصار للنفس والهوى عنواناً لهذا الاختلاف ولو على حساب الحق والقيم والخير فيؤدي إلى التعصب و الفرقة والتنازع والظلم والتعدي على الآخرين وقد حذر الله منه فقال( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران/105] ...وإن من هذه الآداب أن يكون الاختلاف على سبيل الوصول إلى الحق خالصاً لوجه الله وأن لا يفسد للود قضية فنختلف لكن نظل إخوة متحابين يحترم بعضاً بعضاً وتظل العلاقات قائمة بيننا وانظروا إلى العظماء وكيف كانت أخلاقهم وكيف كانوا يختلفون ؟ وكيف تعاملوا مع بعضهم البعض وهم في قمة الاختلاف ... هــذا ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما كانا مختلفين في قضية من قضايا الميراث ومع ثقة ابن عباس بصحة اجتهاده يرى زيد بن ثابت يركب دابته يوماً فأخذ بركابها يقودها، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده فقبلها زيد وقال "هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا" ... وهذا الإمام الشافعي قال عنه يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: ( يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة) ؟! وهذا الإمام أحمد يسأله ابنه عن الشافعي و مع أنه كان يختلف معه في كثير من مسائل الفقه لكنه قال ( كان رحمه الله كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض" .. أي أدبٍ هذا ؟ وأي خلقٍ هذا ؟ .. . و من آداب الاختلاف بيان وجهة النظر وما فيها من ملابسات وتوضيح الصورة الحقيقية للموقف أو للقضية أياً كانت للآخرين ... يوم حنين ظهرت بوادر الخلاف بين الأنصار والمهاجرين في قضية توزيع الغنائم فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم على المؤلفة قلوبهم والمهاجرين ولم يعطي الأنصار منها شيء وهم الذين آووا ونصروا وقدموا حياتهم وأموالهم من أجل هذا الدين فغضبوا ووجدوا في أنفسهم على إخوانهم المهاجرين فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال ( يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: "بلى، "الله ورسوله أمَنّ وأفضل" ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قال: "أجيبوا" قالوا: "بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل." قال صلى الله عليه وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُّدِقتم: "أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك". أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده؛ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا؛ لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار فقالوا بلسان رجل واحد رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحضاً .. ) ومن هذه الآداب عدم احتكار الحقيقة المطلقة عند طرح آرائك فقد يكون في رأيك جانباً من الصحة ويكون الجانب الثاني من الصحة عند الآخرين ذلك أنه يجب علينا أن نحترم عقول الآخرين وقدراتهم ومن هذه الآداب حفظ اللسان وعدم الاستطالة في الأعراض ولين القول وسعة الصدر .. قال الله تعالى في مخاصمة الكفار ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ (العنكبوت:46) فكيف بإخوانك من المسلمين وزملائك وأصدقائك وموظفيك وأبناء قبيلتك؟

وانظروا إلى الأمم من حولنا في الشرق والغرب في أمريكا وأوربا واليابان وكوريا وغيرها من البلاد تجد أنه ما من دولة أو أمة من الأمم إلا وبين أبنائها وفئاتها من الإختلافات الشيء الكثير لكنها استطاعت أن توظفها في بناء مجتمعاتها وتطورها والحفاظ على وحدتها وقوتها ... حتى في إسرائيل ذلك العدو المتاخم القريب، فيه: اليمين المعتدل، واليمين المتطرف، واليسار، والصقور والحمائم والأحزاب المختلفة التي تجتمع كلها في "الكنيست" وتوظف تلك الخلافات لمصلحة حاضر هذا الكيان الصهيوني ومستقبله .. الكل يختلف لكن هذا الإختلاف يصب في مصلحة البلاد والوطن والأمة فيربح الجميع ... فكيف يمكن أن نختلف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أفراداً وجماعات وأحزاب وفئات ونربح جميعاً ؟ ودون أن نخسر علاقاتنا ومصالحنا وثوابتنا ؟ ودون أن يتعطل الإنتاج ويتوقف العمل وتتضرر البلد ويذهب الأمن وتختفى المودة؟ .. فهل من عودة إلى تحكيم الدين والعقل وتقديم مصالح الأمة على مصالح الأشخاص والفئات والجماعات في حل خلافاتنا والله تعالى يقول ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) ( النساء/59) .. وهل من عودة إلى أخلاق الإسلام وآدابه وقيمه ؟ وهل يمكن أن نربي أنفسنا على ثقافة الاختلاف وآدابه في البيوت والمدارس وأماكن العمل والشارع وفي السوق وفي المنتديات والجامعات وداخل مجالس الشورى والبرلمانات والمؤسسات ؟ إنه ينبغي أن يحدث ذلك ليستمر البناء والعطاء في حياة المجتمعات وحتى تتلاقح الأفكار والرؤى وينتج عن ذلك مشاريع وبرامج تخدم البلاد والعباد وحتى ندرك جميعاً أن الإختلاف سنة إلهية لا يمكن أن تنتهي أو تختفي أو تتلاشى من أي مجتمع والمهم كيف نغلب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وكيف نوطن نفوسنا على قبول الحق من أي إنسان وأن لا تأخذ أحدنا العزة بالإثم فيستمر في خطئه وظلمه وفجوره وعناده فيكون سبباً في شقاء أمته ومجتمعه .. إننا نستطيع أن نقوم بذلك كما قام أسلافنا فأسسوا حضارة وبنوا مجداً ونشروا عدلاً وأورثوا علماً وصدروا قيماً وأخلاقاً ووظفوا كثير من اختلافاتهم على مدار حقب من التاريخ لما يعود نفعه وخيره على مجتمعاتهم فكانوا مفاتيح خير لأمتهم مغاليق للشرور في مجتمعاتهم .. ونحن نستطيع كذلك إذا صدقنا التوجه وحُسن العمل وأدركنا مسئولياتنا تجاه ديننا وأمتنا وأوطاننا واستوعبنا الدور الحضاري الذي ينبغي أن نقوم به كقدوة ونماذج فاعلة يحتذي بنا العالم من حولنا كأصحاب رسالة ومشروع يسع الناس جميعاً .. انتهى.


 

إرسال تعليق

 
Top