لم تنته مصيبة المسلمين في الأندلس بزوال سلطانهم السياسي ورحيل سلطانهم أبي عبد الله الصغير إلى المغرب،
بل حلت بهم مصيبة أكبر، حيث نقض الملكان الكاثوليكيان العهد. ووضعا خطة
إبادة للمسلمين الباقين في الأندلس لعقيدتهم الدينية، فشكلا محاكم التفتيش
التي تتعقب من يؤدي شعائر الإسلام بأية صورة، فكان من جراء ذلك أن أظهر
عدد من المسلمين المسيحية وأبطنوا الإسلام، وأطلق على هؤلاء اسم (الموريسكيون Los Moriscos) أي المسلمون الصغار.
وبقي المسلمون هؤلاء يقاومون الاضطهاد ما يزيد على القرن من الزمان دفاعًا عن عقيدتهم وكيانهم،
وأول ظاهرة ملفتة للنظر بعد رحيل السلطان أبي عبد الله الصغير إلى عدوة
المغرب، أن بدأ مسلمو الأندلس بالهجرة من الأندلس إلى المغرب كما جاء في
شروط التسليم التي سهلت لهم هذه المهمة وهي: أن الملكين الإسبانيين ملزمان
بتوفير السفن لنقل مسلمي الأندلس إلى المغرب مجانًا ولمدة ثلاث سنوات،
وبعدها يدفع من يريد العبور دوبلًا واحدًا عن كل شخص (الدوبل عملة ذهبية
إسبانية قديمة تساوي عشر بزيتات) (المادة السابعة من المعاهدة) [1].
السياسة الصليبية ضد الموريسكيين
صدرت الأوامر بتعميم مضمون معاهدة تسليم غرناطة
(897هـ / 25 يناير 1491م) على الأمراء والوزراء والقادة والرهبان والرعية،
وأُصدر مرسومٌ يهدد كل من يجرؤ على المساس بما تضمنته هذه المعاهدة. وقد
ذيل هذا التوكيد بتوقيع الملكين وتوقيع نجلهما الأمير، وحشد كبير من
الأمراء وأشراف الدولة وأحبارها. وأدى الملك فرديناند والملكة إيزابيلا
وسائر من حرروا الشروط القسم بدينهم وأعراضهم، أن يصونوا المعاهدة إلى
الأبد، وعلى الصورة التي انتهت إليها. ومن خلال شروط المعاهدة يتبين لنا
بأنها كفلت للمسلمين حريتهم ولغتهم وشعائرهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم،
باستثناء حمل الأسلحة.
ولكن الذي يبدو أن الملكين الإسبانيين لم يكونا صادقين فعلًا،
حيث بدأ تعصبهم ونقضهم للمواثيق منذ دخولهم غرناطة 2 ربيع الأول 897هـ / 2
يناير 1492م، إذ صدرت الأوامر بإحراق كميات كبيرة من الكتب العربية، لكي
يسهل على الإسبان إبعاد المسلمين عن مصادر عقيدتهم ومن ثم القضاء عليهم
بسرعة.
ومن أول الخطوات التي رسمتها الملكة إيزابيلا المتعصبة
من أجل تنفيذ سياسة التنصير القسري للمسلمين، أنها اعتمدت على مجموعة من
الأحبار والرهبان، ومنحتهم مناصب في البلاط الملكي، فكان من أخطرهم الأب
خمنيس مطران طليطلة.
وإذا كانت الممالك الإسبانية قد اضطهدت المدجنين (المسلمون الذين ظلوا على دينهم) خلال استردادها القواعد الأندلسية قبل سقوط غرناطة،
إلا أنه بعد السقوط أصبح الأمر أكثر خطورة فحرموا من حمل السلاح، وفرضت
عليهم الضرائب القادمة خلال (1495م - 1499م) دون غيرهم من السكان.
منذ اللحظة الأولى لدخول الإسبان غرناطة، تم
توزيع مساحات شاسعة من الأراضي على النبلاء الإسبان، فأصبح ملاكوها
المسلمون أتباعًا للنبلاء هؤلاء. وفي عام 1498م أجريت عملية عزل العناصر
الإسلامية عن المجتمع الإسباني، ووضعوا في أماكن معينة، ليسهل السيطرة
عليهم والقضاء عليهم في حالة الثورة.
كانت نتيجة هذه السياسة التعسفية التي رافقها
إحراق خمنيس للكتب العربية وجعلها أثرًا بعد عين أن تأججت نار الثورة بين
المسلمين. وفي الوقت نفسه عين الأب خمنيس رئيسًا لديوان مجمع قضاة الإيمان
الكاثوليكي (محاكم التفتيش)، والتي تأسست في إسبانيا منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ولقد أقام الملكان الكاثوليكيان محاكم التفتيش أولًا في إشبيلية
عام 885هـ / 1480م وفي جميع المدن الأندلسية التي سيطروا عليها، وكانت هذه
المحاكم سلاحًا فتاكًا بيد الكنيسة تسحق به كل من لم يذعن لأوامرها [2].
وكان من نتائج سياسة خمنيس التعسفية قيام عدة ثورات، أهمها:
1- ثورة البيازين في غرناطة عام 904هـ / 1499م كانت صدور المسلمين تغلي كالمراجل نتيجة نقض الإسبان
لعهودهم ومواثيقهم، وتفجرت ثورتهم عندما اعتدى أحد رجال الشرطة وخادم للأب
خمنيس على فتاة مسلمة في حي البيازين في غرناطة، فهاجموا المعتدين، ففر
الخادم وقبضوا على رجل الشرطة فقتلوه. ومن ثم سارت جموع الثوار إلى دار
الأب خمنيس الواقع قرب قصر الحمراء للقضاء عليه، لعلمهم بأن هذه الحادثة هي من تخطيطه، واختار الثوار أربعين رجلًا منهم يمثلون حكومة موريسكية مستقلة عن الإسبان.
احتمى خمنيس في بيت حاكم مدينة غرناطة الإسباني
(الكونت دي تنديا) مستغلًا المحبة والاحترام بين هذا الحاكم والموريسكيين.
أغلق الثوار الطرقات أمام الحملات العسكرية التي أرسلتها السلطات ورموها
بالحجارة، واستنجدت السلطات بمطران غرناطة (الأب تالا فيرا) الذي يحظى
باحترام الموريسكيين فهدأ من ثورة الموريسكيين واقتنعت حكومتهم بأقواله،
والتي لا تعدو مجرد الوعود لأن مطران غرناطة وغيره يعملون أولًا وآخرًا
لصالح المسيحية والممالك الإسبانية.
حاولت السلطات تهدئة أهالي حي البيازين بأساليب ماكرة،
منتظرة الفرصة الملائمة للقضاء عليهم، وفي الوقت نفسه هربت حكومة
الموريسكيين (حكومة الأربعين) من غرناطة إلى إقليم البشرات خشية التنكيل
بهم أو ملاحقتهم من قبل السلطات.
وبعد إخماد هذه الثورة عام 904هـ / 1499م
قرر ملك غرناطة الإسباني تأسيس محاكم التفتيش في غرناطة، والتي تتبعت
المسلمين بالتعميد، كما منعت أي موريسكي من الدخول إلى غرناطة حتى لا يختلط
بأهلها فيثير فيهم روح الثورة، كما حُرم على المسلمين اللجوء إلى الكنائس
لعلها تخفف عنهم عقوبة الإعدام.
ولم يبق أمام هؤلاء الموريسكيين سوى اللجوء إلى
المعاقل المنيعة في رؤوس الجبال ومن هناك يشنون الغارات على القوات
الإسبانية التي كانت تلاحقهم باستمرار وتبيد مجموعات كبيرة منهم. إضافة إلى
ذلك أصدر الملكان في 906هـ / 20 يوليو 1501م أمرًا يحرم على الموريسكيين
ممارسة أي عمل يمت إلى عقيدتهم ولغتهم بصلة، مما دفع الكثير من الموريسكيين
إلى الالتحاق بإخوانهم في رؤوس الجبال [3].
2- ثورة البشرات عام 906هـ / 1501م كان من نتائج ثورة الموريسكيين في محلة البيازين في غرناطة، أن ثار إخوانهم في منطقة البشرات الواقعة في جنوبي غرناطة.
فأرسلت الحكومة الإسبانية حملة عسكرية للقضاء على هذه الثورة، قادها
(الكونت تنديا) -القائد الذي قام بالدور نفسه في ثورة البيازين- وغيره، ففي
طريقها كانت تمر على القرى فتجدها مقفرة من رجالها الأشداء الذين التحقوا
بثوار البشرات، فتحرق القرى بعد قتل النساء والأطفال والشيوخ.
ولحق بهذه الحملة الملك الإسباني فردينداد وبعض قواده،
الذين احتلوا بعض القرى والحصون في الطريق مثل (وادي لكوين) ومدينة
(لانخرون) و (لوشار) و (قونقه) و (اندرش) ولقيت الحملة الإسبانية مقاومة
عنيفة من الموريسكيين الذين دافعوا عن مدنهم ببسالة.
ومن مدينة المرية خرجت حملة إسبانية أخرى تجاه البشرات،
فأوقعت هذه الحملات الخسائر الكثيرة بالموريسكيين وأخذت الكثير منهم
كرهائن. وفي عام 907هـ / 1502 م كانت الثورات قد أُخمدت عمومًا في جميع
أراضي البشرات وما جاورها، واضطهد الإسبان الموريسكيين اضطهادًا لا نظير
له، فنسفوا مساجدهم، وقتلوا نساءهم وأطفالهم وتعرضوا لحرب إبادة مكشوفة،
لأن الموريسكيين في نظر الإسبان مجرد عبيد ورقيق. وأخيرًا وضع الموريسكيون
المغلوبون على أمرهم أمام أحد الخيارين: إما التنصير القسري، أو التهجير
خارج إسبانيا، وانسحب هذا الأمر إلى مدجني قشتالة وليون.
ونتج عن هذه الأحداث،
تحويل مسجد غرناطة إلى كنيسة، وكذلك حول مسجد البيازين إلى كنيسة ومدرسة
سميت (كنيسة المخلص). وفي مدينة غرناطة نُصِّر قسرًا أكثر من خمسين ألف
شخص، كما أجبر مسلمو الأندلس على لبس السراويل والقبعات، وأجبروا على ترك
لغتهم وتقاليدهم وأسمائهم العربية، وحملوا على اعتناق المسيحية، واستعمال
اللغة والتقاليد والأسماء الإسبانية [4].
الموريسكيون وتعاليم الإسلام
وعلى الرغم من كل وسائل العنف والإرهاب التي استعملتها السلطات ومحاكم التفتيش في تنصير الموريسكيين،
إلا أنهم استمروا في ممارسة شعائر دينهم بصورة سرية، فكانوا يؤدون فروض
الصلاة سرًا في بيوتهم، وكانوا يغلقون بيوتهم يوم الأحد موهمين السلطات
بأنهم ذهبوا إلى الكنيسة، وعندما يتم تعميد أطفالهم في الكنائس يبادرون إلى
غسلهم بعد رجوعهم إلى بيوتهم مباشرة، وكانوا يعقدون حفلات الزواج على
الطريقة الإسلامية سرًا بعد إجراء الاحتفال العلني في الكنيسة. ولهذا أصبحت
تعاليم الإسلام وممارساته تقاليد موروثة، يتوارثها الأبناء عن الآباء
جيلًا بعد جيل في حلقات مغلقة، لها صفة المجالس السرية. وقد تعرض بعض هذه
الأسر إلى الاضطهاد والإبادة بسبب زلة لسان من صبي يعيش حالة الازدواجية [5].
استغاثات الموريسكيين بإخوانهم المسلمين وبعد فشل ثورات الموريسكيين في داخل إسبانيا، أرسلوا استغاثتهم إلى إخوانهم المسلمين لعلهم يساندونهم في محنتهم، ومن هذه الصرخات:
1- استغاثات الموريسكيين بعدوة المغرب بعث الموريسكيون باستغاثتهم إلى عدوة المغرب،
لأن المغرب أقرب البلاد الإسلامية لهم، إلا أن الحالة السياسية المفككة
للمغرب في هذه الفترة منعته عن إرسال النجدات إلى الأندلس، كما كان
سابقًا.
2- استغاثات الموريسكيين بالخلافة العثمانية أرسل الموريسكيون استغاثتهم الأولى إلى السلطان بايزيد الثاني سلطان الخلافة العثمانية (886هـ - 1481م / 918هـ - 1512م)، واتفق هذا السلطان مع السلطان المملوكي في مصر قايتباي (872هـ - 1468م - 901هـ / 1496م) على إرسال أسطول بحري لنجدتهم عن طريق صقلية.
إلا أن ظروف السلطانين السيئة حالت دون إرسال مثل هذا الأسطول، فاكتفى
السلطان بايزيد بإرسال كتاب إلى الملكين الكاثوليكيين، بعد ثورة البيازين
عام 1499م، لم يكن له أي أثر يذكر. ومع ذلك استنجد به الموريسكيون مرة
أخرى، فكانت استغاثتهم على شكل قصيدة مؤثرة مطلعها:
سلام كريم دائم متجدد *** أخص به مولاي خير خليفة
ويبدو أن تاريخ هذه الاستغاثة كان بعد عام 1501م، ولم يحرك السلطان العثماني ساكنًا، وذهبت الاستغاثة الموريسكية في مهب الريح.
3- استغاثات الموريسكيين بالملك الأشرف قانصوه الغوري أرسل الموريسكيون استغاثتهم إلى الملك الأشرف قانصوه الغوري (907هـ / 1501م – 922هـ / 1516م) سلطان دولة المماليك البرجية
في مصر، وأوضحوا له ما وصلت إليه حالهم من إكراه على الارتداد، وانتهاك
للحرمات. ودعوه ليتوسط لدى الملكين لكي يحترما معاهدات الاستسلام، ويوقفا
الأعمال البربرية ضدهم. فأرسل سلطان مصر وفدًا لملكي إسبانيا، بأنه سيجبر
المسيحيين المقيمين في بلاده على الدخول في الإسلام بالقوة، إذا لم يحترم
الملكان الاتفاقيات المعقودة بينهم وبين مسلمي الأندلس.
أرسل الملكان الإسبانيان وفدًا إلى مصر
في عام 1501م يتزعمه رئيس كاتدرائية غرناطة، والذي استطاع أن يغرر بسلطان
مصر ويوحي له بأن الموريسكيين في حالة جيدة، ومعاملتهم حسنة، وأن لهم
الحقوق والواجبات التي يتمتع بها الإسبان. ولم يتابع سلطان مصر الأمر لأنه
كان مشغولًا بحركات السلطان سليم الأول، وذهب قانصوه الغوري ضحية لهجوم سليم الأول على بلاد الشام في معركة مرج دابق عام 1516 م.
وعندما خابت الآمال التي كان يعلقها مسلمو الأندلس
على إخوانهم في الدين في بلاد المغرب والمشرق، لم يبق أمامهم سوى خيارات
ثلاث هي: الموت أو التنصير القسري، أو الهجرة القسرية خارج البلاد.
فضل الكثير منهم البقاء في بلادهم، والقبول بالأمر الواقع، والتنصير القسري -ولو بالظاهر- حيث صعب عليهم مفارقة الأوطان العزيزة. وهناك فريق آخر أبت عليه عزة الإسلام أن يعيش ذليلًا، أو متنصرًا، فترك البلاد وهاجر إلى مصر وبلاد الشام وبلاد عدوة المغرب، وقسم منهم ذهب مع الرحلات الاستكشافية إلى أمريكا الوسطى والجنوبية.
ولم يكتف الملكان الإسبانيان بتنصير وتهجير الموريسكيين، بل لاحقوهم إلى دار هجرتهم وبخاصة بلاد المغرب العربي التي تعرضت مدنه -التي سكنها الموريسكيون- لغارات الإسبان البحرية [6].
[1] عبد الرحمن الحجي: أندلسيات، 2/ 168 –
169. محمد عبد الله عنان: قصة كاتب مورسكي، مجلة العربي، العدد، 131، ص52.
محمد عبد الله عنان: تستور بلد الموريسكيين، مجلة العربي، العدد 156، ص138. [2]
محمد عبده حتاملة: التنصير القسري لمسلمي الأندلش، ص60 - 68. محمد عبد
الله عنان: نهاية الأندلس، ص316، 323، 329. محمد عبد الله عنان: تراث
الأندلس الفكري، مجلة العربي، العدد 99، ص106. حتاملة: التنصير القسري،
ص65. عبد العظيم رمضان: محاكم التفتيش، مجلة العربي، العدد 258، ص48. [3] حتاملة: التنصير القسري، ص77 - 79. عبد الرحمن الحجي: أندلسيات، 2/ 572. محمد عبد الله عنان: نهاية الأندلس، ص323. [4]
حتاملة: التنصير القسري، ص 83 - 86. فهمي هويدي: في بلاد الموريسيك غرباء
الأندلس، مجلة العربي، العدد 228، ص71. محمد عبد الله عنان: نهاية الأندلس،
ص328 وما بعدها. [5] حتاملة: التنصير القسري، ص111- 112. [6]
المقري: أزهار الرياض، 1/ 109 - 115. علي محمد حمودة: تاريخ الأندلس
السياسي، ص302. محمد عبد الله عنان: نهاية الأندلس، ص324، 384 وما بعدها.
محمد عبد الله عنان: تستور بلد الموريسكيين، مجلة العربي، العدد 156، ص138-
141، 156. حتاملة: التنصير القسري، ص99 – 103.
إرسال تعليق