أقدم
الأمير عبد الرحمن الداخل على أثر انتصاره في معركة المصارة (138هـ/ 755م)
ونجاحه في إقامة الإمارة الأموية في الأندلس على قطع اتصالات الأندلس
بالخلافة العباسية. وقام بذلك بعد أن استقر ملكه في الأندلس؛ فما أن مضت أشهر دون السَّنَة [1] حتى أمر بقطع الدعاء والخطبة للعباسيين. وهذا يعني انفصال الأندلس رسمياً عن الخلافة العباسية، ويعني أيضاً أن الأمير عبد الرحمن الداخل لم يعترف بسلطان العباسيين وخلافتهم عن العالم الإسلامي.
ومن جانب آخر، كانت الخلافة العباسية تنظر إلى الداخل وإمارته
في الأندلس نظرة الخلافة الشرعية إلى العاصي المتمرد على طاعة الخلافة،
وكان خلفاء بني العباس، ولا سيما الأوائل منهم، يتمنون زوال هذه الإمارة
ويسعون إلى ضم الأندلس إلى سلطانهم، ولكن ظروف الدولة ومشاكلها وبُعد
الأندلس عن مركز الخلافة حال دون بعث جيش عباسي لضم الأندلس.
ولكنهم لم يتأخروا في تقديم الدعم المادي والمعنوي لكل من حاول ضرب الإمارة الأموية والقضاء عليها؛ آملين في ضم الأندلس إلى كيانهم، وأهم الحركات التي حاولت القضاء على الأمويين، وكانت باسم الخلافة العباسية، هي:
العلاء بن مغيث
تختلف
المصادر في نسب العلاء بن مغيث، فالبعض يطلق عليه لقب اليحصبي، والآخر
الجزامي، وكذلك الحضرمي، وتختلف المصادر أيضاً في المنطقة التي يعود إليها
العلاء، فالبعض يشير إلى أنه من أهل باجة في الأندلس وأنه كان على رأس جند
باجة، فيما يشير البعض الآخر إلى أنه من أهل إفريقيا قدم إلى الأندلس
واستقر في باجة معلنًا حركته على الداخل.
وتتفق الروايات على أنه بدأ حركته في باجة غربي الأندلس (جنوب
البرتغال حاليًا) أو في لقتت "أحد أعمال باجة"، وكان ذلك في سنة (146هـ/
763م)، فيما تذكر رواية أخرى أن حركة العلاء كانت في سنة (149هـ/ 766م).
والأرجح سنة (146هـ/ 763م) لإجماع المصادر على هذا التاريخ.
طبيعة العلاقة بين العلاء بن مغيث والخلافة العباسية
وعلى
الرغم من أهمية حركة العلاء وخطورتها على إمارة الداخل، فلم تزودنا المصادر
بتفاصيل كافية حول طبيعة الحركة وصيغة الاتصال بين العلاء وبين الخلافة
العباسية. فمثلاً يذكر صاحب كتاب أخبار مجموعة: "أنه ثار عليه العلاء بن
مغيث اليحصبي ويقال حضرمي بباجة، وسوَّد ودعا إلى طاعة أبي جعفر المنصور، وكان قد بعث إليه بلواءٍ أسودٍ" [2].
فيما تذكر رواية أخرى: "أن المنصور كان أرسل للعلاء بولاية الأندلس، فنشر الأعلام السود، وقام بالدعوة العباسية بالأندلس" [3]،
في حين يذكر المقري أنه سنة 146هـ: "سار العلاء بن مغيث اليحصبي من
إفريقيا إلى الأندلس، ونزل بباجة الأندلس داعياً لأبي جعفر المنصور" [4].
إن عدم التصريح الواضح من قبل المصادر حول حقيقة حركة العلاء
يجعلنا نتساءل: هل كان العلاء من أتباع الخليفة المنصور وعاملاً للخلافة
العباسية منفذاً لأوامرها، ومندفعاً من قبلها في حركته؟ أو كان مستغلاً اسم
الخلافة في حركته ليضفي عليها الصفة الشرعية ليجمع أكبر عددٍ من الناس
حوله في سبيل تحقيق طموحه الشخصي في توليه الأندلس؟ وهل بدأ العلاء مراسلة
الخلافة العباسية قبل القيام بحركته؟ أو راسله الخليفة المنصور عندما علم
بحركته بالأندلس رامياً عليه تأييده وباعثاً له كتاباً ينص على توليه أمر
الأندلس وأعلاماً سوداً شعار حركته، مستغلاً إياه في سبيل القضاء على
الداخل وإمارته وضم الأندلس إلى السلطة العباسية ولو اسميًا؟
لا نستطيع الجزم في الجواب عن هذه التساؤلات، ولكننا نرجح أن
يكون العلاء بن مغيث من أتباع الخليفة المنصور مستندين في ذلك إلى ما يأتي:
1- خروج العلاء بن مغيث من إفريقيا والذي نصت عليه معظم
الروايات التاريخية، لا يمكن أن يتم هذا الخروج دون علم والي إفريقيا من
قبل الخليفة المنصور [5].
2- تفويض المنصور للعلاء بولاية الأندلس، واللواء الأسود الذي
بعثه المنصور للعلاء برفقة كتاب جاء فيه: "إن كان فيك محمل لمناهضة عبد
الرحمن، وإلا فأبعث إليك بمن يعينك" [6]. كل ذلك يقوي الرأي القائل بأن العلاء كان مندفعاً بحركته من قبل الخليفة المنصور.
3- إقدام الأمير عبد الرحمن الداخل على بعث رأس العلاء بعد
قتله ورؤوس زعماء حركته برفقة كتاب المنصور ولوائه الأسود إلى الخليفة
المنصور مغدقاً الأموال لمن يحمله إلى الخليفة [7].
وكان ذلك بمثابة تحدٍّ من الداخل للخلافة العباسية معلماً علناً للمنصور
فشل حركته ومحاولته النيل من الإمارة الأموية مشعراً إياه بقوته وعزمه.
4- قول المنصور حينما وصله رأس العلاء: "إنا لله، عرضنا بهذا المسكين للقتل" [8].
إن كل ما تقدم يقوي الرأي القائل بأن العلاء كان من أتباع
المنصور مندفعًا من قِبَله، الذي وجد فيه حباً للولاية وخصومه للأمويين،
فأراد استغلاله في القضاء على الإمارة الأموية.
ثورة العلاء بن مغيث
بدأ
العلاء بن مغيث تحركه في باجة ورفع الأعلام السود شعار العباسيين، وبدأ
يحرض الناس على الداخل معلناً لهم أنه خارج عن سلطان الخلافة الشرعية. وقد
اختار العلاء ظرفاً ملائماً لحركته، إذ كان الداخل يواجه حركات معارضة
تجتاح الأندلس من شمالها وجنوبها [9]، الأمر الذي أحرج الداخل.
ولكن الإحراج الأكبر كان بانضمام أعداد كبيرة من الناس؛ "فانحشر إليه الناس"، وانضم إليه الأجناد [10]، واتبعته الفهرية على أثر انضمام "واسط بن مغيث الطائي وأمية بن قطن الفهري" [11]. وانضمت إلى الحركة كذلك اليمانية، "فأقبلت اليمانية" [12]،
وسادت الأندلس فترة من الهيجان الشديد، وأحرج موقف الأمير الداخل إحراجاً
كبيراً لكثرة المنضمين للحركة، "وكادت دولة الأمير أن تنصرف وخلافته أن
تنخرم" [13].
وكان لكثرة الناس المنضمين لحركة العلاء أسباب، هي:
1-
استغلال العلاء الخلافة العباسية في حركته وأثار شعور الناس بإشاعته أن
الداخل خارج عن سلطان الخلافة العباسية، الأمر الذي أوهم ودفع الكثير من
الناس إلى الانضمام إلى حركته.
2- انضم إلى حركة العلاء الذين تضررت
مصالحهم بقدوم الداخل وقيام الإمارة الأموية، وخاصة الفهري الذي أبعد عن
السلطة بمجيء الداخل؛ وانضمت كذلك القبائل اليمانية التي انقلبت على عبد
الرحمن، لأنهم لم يجدوا في عهده النفوذ الذي كانوا ينشدونه مقابل مساعدتهم
في كفاحه ضد المضرية [14].
تحرك عبد الرحمن الداخل لمواجهة الثورة تقدمت الجموع المؤيدة للعلاء إلى إشبيلية، فخرج الداخل بقواته من قرطبة
مفضلاً ملاقاة الخارجين خارج قرطبة، خاصة بعد أن سمع بكثرة عددهم؛ واشتد
الكرب بعبد الرحمن الداخل عندما علم بخروج "غياث بن علقمة اللخمي من شذونة
ممدًا لهم، فلما سمع بخبره الأمير، بعث إليه بدرًا مولاه في قطيع من عسكره
فنازله بدر وانعقد الصلح".
فعاد اللخمي إلى شذونة، ورجع بدر إلى الداخل، ناقلاً له رجوع غياث اللخمي ووصل الداخل إلى قرمونة [15]،
وهي موقع حصين على الطريق بين منطقة الثائرين وقرطبة، ووصلت قوات الخارجين
وحاصرت قوات الداخل، وبدأت مناوشات بين الطرفين شديدة من خلف أسوار
المدينة، ولما طال أمد الحصار، تخلخل جيش العلاء؛ إذ لم يتوقعوا استمرار
الحصار لهذه الفترة [16].
فشل ثورة العلاء بن مغيث
فلما
أُعلم الداخل أن اليأس قد دبَّ في صفوف أعدائه، أراد استغلا ل الفرصة
والقضاء على الحركة، "فأمر الداخل بنار فأوقدت، ثم أمر بأغمدة سيوف أصحابه
فأحرقت، وقال لهم: اخرجوا معي لهذه الجموع خروج من لا يحدث نفسه بالرجوع،
وكانوا 700 من ذكور الرجال ومشاهير الأبطال، فأخذوا سيوفهم وخرجوا"،
مباغتين أعداءهم مثيرين فيهم الرعب، فدارت الحرب بينهم طويلاً، وزُلزل قوم
العلاء وأصحابه، فولوا منهزمين، وقُتلوا قتلاً ذريعًا، وقُتل العلاء مع
سبعة آلاف من أصحابه.
ربما يكون أعداد مقاتلي الجانبين مبالغاً فيه، أَوَ ليس من المعقول أن يقتل سبعمائة مقاتل سبعة آلاف مقاتل؟!
وبذلك تخلص الداخل من خطر شديد هزَّ كيان إمارته هزًّا
عنيفًا، وليس أدل على تأثير حركة العلاء على نفسية الداخل من العمل الذي
قام به، وهو أنه "ميَّز رؤوس المعروفين ورأس العلاء ومثَّله، ثم كتب باسم
كل واحد بطاقة، ثم علقت في أذنه، ثم أجزل العطاء لمن انتدب لحمل تلك
الرؤوس" [17].
وحُملت الرؤوس ورأس العلاء معها بعد أن أفرغ وحشي ملحاً
وصبراً وجعل معه لواء المنصور، وبعثه مع رجال وأمرهم أن يضعوا بمكة. فوافق
المنصور بها حاجًّا في تلك السنة، فجعل السقط عند باب سرادقه، فلما نظر
إليه، قال: "إنا لله، عرضنا بهذا المسكين للقتل".
إن عمل الداخل بما يحمل من سخريةٍ وتحدٍّ لأبي جعفر المنصور
يعكس الصعوبة التي واجهها الداخل في حركة العلاء بن مغيث، بحيث جعلته يفقد
سيطرته على نفسه ويقوم بعمله المثير.
وقد جعل فشل حركة العلاء وتحدي الداخل للخلافة بسخرية وعنف، هذه المحاولة الأولى والأخيرة التي يقوم بها أبو جعفر المنصور ؛ فلم يقدم على أي محاولة ثانية ضد الإمارة الأموية في الأندلس.
[1] ابن الأبار: المصدر نفسه، ص. 36. [2] مؤلف مجهول، المصدر السابق، ص. 102. [3] ابن عذاري، المصدر السابق، ج 2، ص. 77. [4] المقري، المصدر السابق، ج 1، ص. 310. [5] فريدة الأنصاري، المصدر السابق، ص. 175. [6] الدوري، المصدر السابق، ص. 160. [7] ابن عذاري، المصدر السابق، ج 2، ص. 77. [8] المقري، المصدر السابق، ج 1، ص. 310؛ ابن عذاري، المصدر السابق، ص. 77. [9] السيد عبد العزيز سالم، المؤرخ العربي، عدد 2، بغداد، 1975، ص. 144. [10] ابن عذاري، المصدر السابق، ج 2، ص. 77. [11] مؤلف مجهول، المصدر السابق، ص. 102. [12] المصدر نفسه، ص. 102. [13] ابن عذاري، المصدر السابق، ج 2، ص. 77. [14] الدكتور أحمد مختار العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص. 307. [15] مؤلف مجهول، المصدر السابق، ص. 102. [16] ابن عذاري، المصدر السابق، ج 2، ص. 77. [17] مؤلف مجهول، المصدر السابق، ص. 103.
إرسال تعليق