0
الخلافة الأموية في الشرق
الوليد بن يزيد بن عبد الملك

 بعد وفاة الخليفة هشام بن عبد الملك عام (125هـ) بدأت عوامل الضعف تسري في جسد الدولة الأموية، وبدت الخلافة وكأنها تسير نحو الهاوية؛ فبوفاة الخليفة هشام بدأت الاضطرابات والفتن والقلاقل تظهر على مسرح الأحداث، واستمرَّ الأمر كذلك نحوًا من سبع سنوات داخل البيت الأموي نفسه، فبعد وفاة هشام بُويع للخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (الوليد الثاني)، وقد استهلَّ الوليد خلافته بالاهتمام بأحوال رعيته اهتمامًا شاملاً، ثم ما لبث أن ارتكب جنايات كثيرة؛ كان أعظمها تنكيله ببني عمه سليمان وهشام، وتنكيله بكبار رجال دولته، ثم إظهاره للمجون والخلاعة والعبث؛ مما عجَّل بسقوط مُلْكه وخلافته، ثم قتله.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
قُتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثْرَ ثورة قام بها يزيد بن الوليد بن عبد الملك اشترك معه فيها أمراء البيت الأموي واليمنية، وما أن تمَّت البيعة ليزيد بن الوليد (يزيد الثالث) حتى قامت المعارضة العنيفة في وجهه، وتزعَّمها أبناء عمومته، كما ثارت عليه الأقاليم الشامية، فلم يهنأ بخلافته طويلاً، ولم تَدُمْ خلافته سوى ستة أشهر (جمادى الآخرة - ذو الحجة سنة 126هـ)؛ حيث توفي في ذي الحجة، ليترك الشام -وهي الحصن الحصين للدولة الأموية- تشتعل نارًا، كما ترك أبناء أسرته منقسمين على أنفسهم، منشغلين بصراعاتهم عن الأخطار المحدقة بهم، وبصفة خاصة الخطر العباسي.
إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك
ثم بُويع إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك عام (127هـ)، ولكن لم يتم له الأمر؛ إذ انقلب عليه مَرْوَان بن محمد وانتصر عليه في عين الجر، وبويع له بالخلافة في ربيع الآخر (127هـ)، فكانت مدَّة خلافة إبراهيم بن الوليد ما يقرب من أربعة أشهر.
مروان بن محمد (الحمار)
تسلَّم مَرْوَان بن محمد الخلافة الأموية ليُصَارع أحداثًا أقوى منه، ويُواجه دنيا مُدبِرَة ودولة ممزقة، قُدِّرَ له أن يكتب الفصل الأخير من حياتها، فبعد حالة من السكون والاستقرار إِثْر بيعة مَرْوَان بن محمد بالخلافة، اندلعت الثورات في كل مكان في الدولة؛ فهناك ثورة في حمص، وأخرى في الغوطة، وثالثة في فلسطين، واضطرابات في العراق قام بها الخوارج والشيعة، وأخطر من ذلك كله كان انقلاب أمراء البيت الأموي عليه؛ كسليمان بن هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن العزيز، وقد كان انهماك مَرْوَان الثاني في إخماد الثورات والفتن؛ سببًا في انشغاله عن الاهتمام بما كان يجري في المشرق، خاصَّة في خراسان التي كانت مركزًا للدعوة العباسية، وقد انتشرت في المنطقة انتشارًا واسعًا، واستقامت الأمور فيها لبني العباس؛ مما أدَّى إلى اقتناع الدعاة العباسيين بأن الوقت قد حان للجهر بها، وبدأت رايات العباسيين تنساح في البلاد انسياحًا سريعًا.
معركة الزاب
التقت سيوف الأمويين والعباسيين، ودارت بين الجيشين رحى معركة عنيفة عند نهر الزاب في شهر جمُادَى الآخرة عام (132هـ)، استمرَّت أحدَ عشرَ يومًا انتهت بهزيمة مَرْوَان بن محمد ثم قَتْلِه، لتبدأ حِقبة جديدة في التاريخ الإسلامي، هي الخلافة العباسية.
أهم أحداث الفترة الثانية من عهد الولاة في الأندلس
نظرًا لتفاعل الأمور السابقة بعضها مع بعض، نستطيع بإيجاز شديد أن نُلَخِّص أهمَّ الأحداث التي تمخَّضت عنها الفترة الثانية والأخيرة من عهد الولاة فيما يلي:
أولاً: فُقِدَت كثير من الأراضي الإسلامية في فرنسا[1].
ثانيًا: ظهرت مملكة نصرانية في الشمال الغربي عند منطقة الصخرة، تُسَمَّى مملكة (ليون)([2].
ثالثًا: انفصل إقليم الأندلس عن الخلافة الإسلامية -الأموية في ذلك الوقت- وذلك على يد يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ[3].
رابعًا: انقسمت الأندلس إلى فرقٍ عديدةٍ متناحرة، وثورات لا نهاية لها، فكلٌّ يُريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته.
خامسًا: أمر خطير جدًّا وهو ظهور فكر الخوارج، الذين جاءوا من الشام، واعتناق الأمازيغ (البربر) له؛ وذلك أن الأمازيغ (البربر) كانوا يُعانون ظلمًا شديدًا وعنصرية بغيضة من قِبَل يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيِّ؛ مما مهَّد عقولهم لقبول هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح واعتناقه؛ خَلاصًا مما يحدث لهم ممَنْ ليسوا على فكر الخوارج[4]. 
سادسًا: زاد من خطورة هذا الموقف ذلك الحدث الجسيم الذي صدع الأمة الإسلامية في سنة (132هـ=750م)، وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، الذي كان قيامًا دمويًّا رهيبًا، انشغل فيه العباسيون بالقضاء على الأمويين؛ ومن ثَمَّ فقد ضاعت قضية الأندلس وغابت تمامًا عن الأذهان. 
ونتيجة لهذه العوامل جميعًا فقد أجمع المؤرخون على أن الإسلام كاد أن ينتهي من بلاد الأندلس، وذلك في عام (138هـ=755م)، وأصبح أمر الأندلس يحتاج في إصلاحه إلى معجزة إلهية، وبالفعل حدثت المعجزة بفضلٍ من الله ومَنٍّ وكرمٍ منه على المسلمين؛ وذلك بدخول رجل يُدعَى عبدَ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي إلى أرض الأندلس، وذلك في شهر ذي الحجة عام (138هـ= مايو 756م).
ملامح عهد الولاة الثاني
حُبُّ االدنيا في أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة والغنائم ضخمة، وفُتِحَت الدُّنيا عليهم، في حين يقول رسول الله : «إِنَّ مِمَّا أَخَاُف عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا»[5]. وهكذا فُتِحَت الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها؛ فتأثَّر بذلك إيمانُهم.
ظهور العنصرية والقبلية
وتبعًا لتأثُّر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة، وحدثت انقسامات كثيرة في صفوف المسلمين داخل الأندلس؛ حدثت انقسامات بين العرب والأمازيغ (البربر)، وكانت جذور هذه الانقسامات منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسِهم، بين المضريين والحجازيين، وبين العدنانيين (أهل الحجاز) والقحطانيين (أهل اليمن)؛ حتى إنه كانت هناك خلافات وحروب كثيرة بين أهل اليمن وأهل الحجاز، ولقد وصل الأمر إلى أن حدثت انقسامات بين أهل الحجاز أنفسِهم؛ بين الفِهْرِيين وبين الأمويين، بين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز بعضهم على بعض[6].
ظلم الولاة
وإضافة إلى حبِّ الغنائم وتفاقم ظاهرة القبلية والنزعة العنصرية، وكخطوة لاحقة لهذا ظهر ما يمكن أن نُسمِّيه ظلم الولاة، فقد تولَّى أمر المسلمين في الأندلس ولاة ظلموا الناس وألهبوا ظهورهم بالسياط؛ كان منهم -على سبيل المثال- عبد الملك بن قَطَن، فقد كان ظالمًا جائرًا[7]. 
وعلى دربه سار يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ الذي تولَّى عام (130هـ=748م) وحتى آخر هذه الفترة، وآخر عهد الولاة كلية سنة (138هـ= 755م)[8]، فحدثت انكسارات جديدة وثورات عديدة داخل بلاد الأندلس [9].
تَرْك الجهاد
كنَّا نتحدَّث منذ قليل عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفتح فرنسا، ثم ها هي ذي الدنيا قد تمكَّنت من القلوب، وها هي ذي العنصرية قد ظهرت، وها هو ذا ظلم الولاة يُسْلِمُ الناس إلى هذه الثورات، وكردِّ فعل طبيعي جدًّا لكلِّ هذا ترك الناسُ الجهاد، وتوقَّفت الفتوحات في فرنسا، وتوقَّفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، التي كان يتمركز بها مجموعة من النصارى منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وكقاعدة ربانية وسُنَّة إلهية فما تَرَكَ قومٌ الجهاد في سبيل الله إلاَّ ضرب الله عليهم الذلَّ، يروي أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن االرسول قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ[10]، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ[11]، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»[12]. وهكذا كان الحال حين ترك المسلمون الجهاد في فرنسا وأرض الأندلس، فسَلَّط الله عليهم الذلَّ، وانقسموا على أنفسهم، وانشغلوا بدنياهم.

[1] انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس ص239-251.
[2] انظر تفصيل ذلك في فجر الأندلس، ص255-286.
[3] ابن عذاري: البيان المغرب 1/62.
[4] مجهول: أخبار مجموعة ص42، وابن عذاري: البيان المغرب 1/54.
[5] البخاري: كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى (1396) عن أبي سعيد الخدري، ومسلم: كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم (1052).
[6] انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص129-79، ص183-203.
[7] المقري: نفح الطيب 1/236، 3/19.
[8] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35-38، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/25.
[9] انظر التفصيل عند ابن عذاري: البيان المغرب 2/38.
[10] بيع العينة: هو أن يبيع الرجل شيئًا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. العظيم آبادي: عون المعبود 9/242، والمناوي: فيض القدير 1/403.
[11] وأخذتم أذناب البقر: كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. المناوي: فيض القدير 1/403.
[12] أبو داود: كتاب الإجارة، باب النهي عن العينة (3462)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (11).
Related Posts islamstory...

إرسال تعليق

 
Top