مقتل عبد الملك بن قطن
خرج
عبد الملك بن قَطَن مظفَّرًا بعد أن أنهى ثورة الأمازيغ (البربر) في
الأندلس، ولكنه لم يطمئن على سلطانه ما دام بَلْج بن بشر وجنوده الشاميون
في الأندلس، وكانت هواجس ابن قَطَن في محلِّها، فعندما عرض على بَلْج
الجلاء من الأندلس،
طبقًا لما اتفقا عليه قبل دخول بَلْج الأندلس، رفض بَلْج بن بشر وجنوده
الشاميون أن يعودوا مرَّة أخرى إلى المغرب بعدما أنقذوا الأندلس وابن
قَطَن، وقال بَلْج بأنه ولي الأندلس بعهد من عمِّه كلثوم بن عياض، الذي
ولاَّه الخليفة أمر المغرب، وأيَّده في هذا ثعلبة بن سلامة، وتنادوا بخلع
ابن قطن وتولية بلج، فانحازت إليهم العرب اليمانية في الأندلس، وهجموا على
ابن قَطَن -الذي كان قد قارب التسعين من العمر- في قصره بقُرْطُبَة،
واعتقلوه ثم صلبوه، وذلك في ذي القعدة 123هـ= سبتمبر 741م[1].
وصل أبو الخطَّار على رأس الطالعة الثانية من الشاميين للأندلس بعد
طالعة بَلْج بن بشر الأولى، فأظهر العدل والإنصاف، وأطلق سراح الأسرى
والسبي، وتوحَّدت كلمة المسلمين في الأندلس، وأنزل أهل الشام في الكُوَرِ،
ومن هنا عاد الاستقرار والهدوء النسبي إلى الأندلس حينًا[5].
ولكن يبدو أن داء العصبية والقبلية كان متجذِّرًا في النفوس آنذاك، فما هي إلاَّ أيام حتى غلبت النزعة القبلية على أبي الخطَّار وهو يمني متعصب، ووصلت به عصبيته إلى أن تحاكم إليه يمني وقيسي، وكان القيسي أبلغ حُجة من اليمني، ولكن غلبت عليه عصبيته فحكم لليمني، فما كان للقيسي إلاَّ أنه ذهب إلى زعيم قومه القيسية وهو الصَّمِيل بن حاتم؛ ليطلب حقَّه المسلوب، فذهب الصَّمِيل إلى أبي الخطَّار، فأهان أبو الخطَّار الصَّمِيلَ، وضربه حتى اعوجَّت عمامته، فقال له بعض الحجَّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجَوْشَن. فقال: إن كان لي قوم فسيُقِيمُونها[6]. وكان ذلك إيذانًا باشتعال أُوَار الحرب مرَّة أخرى بين القيسية واليمنية.
استطاع الصَّمِيل بن حاتم أن يجمع قومه، وأن يستقطب بعض الشخصيات
اليمنية الساخطة على أبي الخطَّار من اللخميين والجُذَاميين، كان منهم
ثَوَابَة بن سلامة العَامِلِيّ الجُذَامي، الذي وعده الصَّمِيل بالولاية إن
هو انتصر على أبي الخطَّار[7].
وعجل أبو الخطَّار إلى لقاء الصَّمِيل وقومه القيسية، وكان اللقاء عند وادي لكة في رجب 127هـ= إبريل 745م[8]، وقد تفرَّق جمع أبي الخطَّار بعد أن تقاعس الكلبيون عن قتال بني عمومتهم من اللخميين والجُذَاميين، ووجد أبو الخطَّار نفسه وحيدًا، فعزم على الفرار إلى قُرْطُبَة، ولكن الصَّمِيل قبض عليه وسجنه وخلعه، وولَّى مكانه ثَوَابَة بن سلامة الجُذَامي عام (128هـ=745م)[9]، فاجتمع رجال اليمنية من أنصار أبي الخطَّار لنصرته، واستطاعوا التغلُّب على حُرَّاسه، وأخرجوه من سجنه بقُرْطُبَة، فأقام بين قبائل كلب وحمص، واعترفوا به واليًا شرعيًّا على الأندلس، وبدأ أبو الخطَّار يأخذ خطوات عملية نحو استعادة مُلكه الضائع، الذي سلبه منه القيسية بزعامة الصَّمِيل، وتوجَّه بجموعه إلى قُرْطُبَة ليأخذها، فخرج إليه ثَوَابَة بن سلامة، فتفرَّق الناس عن أبي الخطَّار، وانسحب بجيشه، ليُعِيدَ الكرة مرَّة أخرى[10].
ولم ينعم ثَوَابَة بن سلامة بمُلك الأندلس طويلاً؛ فقد وافاه الأجل بعد عام من ولايته في المحرم (129هـ=746م)، وبقيَت الأندلس أربعة أشهر بعده دون والٍ، مع أن الصَّمِيل يستطيع أن يُنَادي بنفسه واليًا، إلاَّ أنه لم يفعل، واكتفى برصد اللعبة السياسية وإدارتها من وراء الستار[11].
وقد تميزت هذه الفترة من عهد الولاة بكثرة المرشَّحين للولاية، ولكلٍّ منهم أتباعه، فهذا أبو الخطَّار الكلبي، وهذا يحيى بن حريث الجُذَامي، وهذا عمرو بن ثَوَابَة مدعيًا أنه أحق بالولاية بعد أبيه، وفوق ذلك كله كان عقل الصَّمِيل بن حاتم وتدبيره، وليس أدلَّ على ذلك قوله: «نُقَدِّم رجلاً يكون له الاسم ويكون لنا الحظُّ»[12].
اشتد النزاع بين الأطراف المتنازعة على الولاية، وبدا كل منهم متمسكًا
برأيه وأحقيته، محتميًا بقومه وعشيرته، وفي هذا الجوِّ المشحون بالعصبية،
التي تُفضي إلى التقاتل والتناحر، توصَّل الصَّمِيل إلى حلٍّ يقضي بتقاسم
السلطة بين القيسيين واليمنيين على شكل تعاقب سنوي في الحكم[13]،
واقتنع الطرفان، وبقيت المشكلة في أول والٍ للأندلس، وقد بادر القيسية
بقيادة الصَّمِيل إلى تقديم شخصيتهم الأولى؛ فاقترح الصَّمِيل أن يكون يوسف
بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ هو أول الولاة، واستطاع الصَّمِيل أن يُرْضِيَ
يحيى بن حريث؛ فأعطاه كورة ريَّة فرضي بها وقنع، ووقع الاتفاق بين القيسية
واليمنية على يوسف الفِهْرِيّ في جمادى الأولى (229هـ=747م)، على أن يجتمع
القوم بعد عام ليختاروا الشخصية اليمنية التي ستلي الأمر بعد يوسف
الفِهْرِيّ[14].
وما أن استقرَّ الأمر في الأندلس، حتى عزل الصَّمِيل يحيى بن حريث
الجُذَامي عن كورة ريَّة، حتى لا تقوى شوكته مرَّة أخرى ويكثر أنصاره من
اليمنية؛ فاشتدَّ غضب يحيى بن حريث لهذا القرار، وسارت رُوح العصبية مرَّة
أخرى، ووضع يحيى بن حريث يده في يد أبي الخطَّار، فاجتمعت كلمة
الجُذَامِيين والكلبيين وباقي اليمنية في الأندلس لمناصرة يحيى بن حريث،
واجتمعت كلمة مضر وربيعة لمناصرة يوسف الفِهْرِيّ والصَّمِيل بن حاتم[15].
وزحف أبو الخطَّار ويحيى بن حريث ناحية قُرْطُبَة، وعسكر الجيش عند نهر قُرْطُبَة (الوادي الكبير) عند قرية شقندة، وعبر الصَّمِيل والفِهْرِيّ وجنودهما إليهما، ودارت معركة شقندة (130هـ=747م)[16]، وقد استمرَّ القتال سجالاً بين الفريقين، حتى استعان الصَّمِيل بعَوَامِّ السُّوقِ وغوغائها، فاشترك أربعمائة منهم في القتال، ليس لهم همٌّ إلاَّ القتل، فلمَّا رأى اليمنيون ذلك دبَّ الرعب في قلوبهم، وخارت عزائمهم، وأثخن القيسية فيهم القتل، وكان منهم عمرو بن حريث وأبو الخطَّار الكلبي الذي قُتِلَ بعد أن وقع في الأسر، وأراد الصَّمِيل أن يشفي غليله وأحقاده من اليمنية، فأمر بالأسرى أن يُقتلوا صبرًا، فقُتِلَ منهم سبعون، ثم تَدَخَّل حليفه أبو العطاء الجُذَامي فأمره أن يكُفَّ عن المذبحة فكَفَّ[17]، وهكذا كُسرت شوكة اليمنية في الأندلس ودانت البلاد لأمر الفِهْرِيّ والصَّمِيل، لا ينازعهما فيها أحد.
يبدو أن يوسف الفِهْرِيّ أردا الخلاص من تلك الوصاية الفعلية عليه من
قِبَل الصَّمِيل، فأمر بتعيين الصَّمِيل عاملاً له على إقليم
سَرَقُسْطَة في عام (132هـ=750م)، وقبِلَ الصَّمِيل.
خلا الجوُّ للفِهْرِيِّ في قُرْطُبَة، فلم يَعُدِ الصَّمِيل وصيًّا عليه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ كان ضعيف الشخصية ولم يكن له في أمور السياسة، فثار الناس عليه، وخرج عليه عامر بن عمرو العَبْدَرِيُّ، وهو يمني[19] خاف أن يفعل الصَّمِيل باليمنية في سَرَقُسْطَة ما فعله بهم في شقندة وما بعدها، وكان باستطاعة يوسف الفِهْرِيِّ أن يقضي عليه في قُرْطُبَة إلاَّ أن جبنه وتردُّده حال دون ذلك؛ إذ رأى أن يأخذ برأي الصَّمِيل أولاً، فنصحه الصَّمِيل بقتله، وفطن عامر العَبْدَرِيُّ لمحاولة يوسف الفِهْرِيِّ قتله، فصرف عامر العَبْدَرِيُّ نظره عن قُرْطُبَة، وأراد أن يقوم بعمل يقضي به على شوكة الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيِّ، وبما أن الرجل كان يمنيًّا متعصبًا، فقد فكَّر في الالتجاء إلى اليمنية في سَرَقُسْطَة، والتحالف معهم على القضاء على القيسية، فكاتب زعيمًا من زعمائهم وهو الحباب الزهري، فاجتمعت كلمة اليمنية، وعزموا على حصار الصَّمِيل في سَرَقُسْطَة، وذلك في عام (136هـ=753م) [20].
فلما اشتدَّ الحصار على الصَّمِيل بعث إلى يوسف الفِهْرِيِّ يطلب نجدته وعونه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ تباطأ في الردِّ عليه، ويبدو أن الفِهْرِيَّ كان سعيدًا مسرورًا؛ لأنه سيتخلَّص من وصاية الصَّمِيل الثقيلة عليه، إلاَّ أن أتباع الصَّمِيل من القيسيين جمعوا جموعهم لنصرة زعيمهم الصَّمِيل، وانضمَّ إليهم نفر من بني أمية ومواليهم –لغرض غامض سنكشفه بعد قليل- وكان على رأسهم أبو عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد[21].
وانطلقت جموع القيسية ومعهم بنو أمية ومواليهم لنجدة الصَّمِيل، وما كادت تصل طلائعها حتى جزع المحاصِرون ورفعوا الحصار عن الصَّمِيل، وعلى الفور انطلق الصَّمِيل ناحية قُرْطُبَة، ثم هاجم عامر العَبْدَرِيُّ والزهري سَرَقُسْطَة فاستوليا عليها، ثم أن الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيّ هاجما المدينة، ووقع العَبْدَرِيُّ والزهري في قبضة الصَّمِيل الذي أمر بقتلهما[22].
العصبية القبلية بين القيسية واليمنية
كان
لمقتل عبد الملك بن قَطَن ردُّ فعل مؤلم ومؤثِّر، ألهب مشاعر الحقد
والضغينة، وجدَّد الصراع بين القيسية واليمنية؛ فقد توجَّهت جموع
المتحالفين مع قَطَن وأمية ابنا عبد الملك بن قَطَن نحو قُرْطُبَة، ودارت
بينهم وبين الشاميين معركة ضارية عند أقوة برطورة في شوال (124هـ=742م)،
قاتل فيها الشاميون قتالَ مَنْ يطلب الموت دون الحياة؛ فهي معركة مصيرية
بالنسبة لهم، فهم إمَّا أن يكونوا بعدها أو ألاَّ يكونوا؛ لذلك كان النصر
حليفهم، وفيها أُصيب بَلْج بن بشر بسهم، تسبَّب في موته بعدئذٍ، واختار
الشاميون بعده ثعلبة بن سلامة العَامِلِيّ أميرًا عليهم[2].
في هذه الأثناء تجمَّعت جموع المتحالفين مرَّة أخرى ناحية
قُرْطُبَة للقضاء على الشاميين، فخرج لهم ثعلبة بن سلامة وجنده إلاَّ أنه
هُزم هزيمة منكرة، وانسحب إلى مَارِدَة وتحصن بها، وصادف ذلك عيد الأضحى
(10 ذي الحجة 124هـ)، فأحكموا الحصار على الشاميين، واطمأنُّوا إلى النصر
وغرَّهم ما هم فيه من القوة، وشعر ثعلبة بذلك؛ فأرسل إلى عامله على
قُرْطُبَة يستنجده ويطلب منه المساعدة العسكرية، فوصلت المساعدة من
قُرْطُبَة في صبيحة عيد الأضحى، واستغلَّ ثعلبة انشغال المحاصرين عنه
باحتفالاتهم، فباغتهم بالهجوم، وكانت مقتلة عظيمة، دفع فيها المتحالفون
عليه الثمن باهظًا، ولم يتورَّع الشاميون عن القتل، ولا عن استرقاق أسراهم
من الرجال والنساء والأطفال، البالغ عددهم عشرة آلاف أو يزيد، وقد حملهم
ثعلبة إلى قُرْطُبَة، وهو يُريد أن يقتلهم جميعًا[3]، إلاَّ أن حنظلة بن صفوان -والي إفريقية للخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك-
بعث أبا الخطَّار حسام بن ضرار الكلبي لإنقاذ الموقف في الأندلس، بعد أن
كادت العصبية القبلية تعصف به، وذلك في رجب سنة (125هـ=743م)، وقد رضي
البلديون والشاميون به[4].أبو الخطار حسام بن ضرار
ولكن يبدو أن داء العصبية والقبلية كان متجذِّرًا في النفوس آنذاك، فما هي إلاَّ أيام حتى غلبت النزعة القبلية على أبي الخطَّار وهو يمني متعصب، ووصلت به عصبيته إلى أن تحاكم إليه يمني وقيسي، وكان القيسي أبلغ حُجة من اليمني، ولكن غلبت عليه عصبيته فحكم لليمني، فما كان للقيسي إلاَّ أنه ذهب إلى زعيم قومه القيسية وهو الصَّمِيل بن حاتم؛ ليطلب حقَّه المسلوب، فذهب الصَّمِيل إلى أبي الخطَّار، فأهان أبو الخطَّار الصَّمِيلَ، وضربه حتى اعوجَّت عمامته، فقال له بعض الحجَّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجَوْشَن. فقال: إن كان لي قوم فسيُقِيمُونها[6]. وكان ذلك إيذانًا باشتعال أُوَار الحرب مرَّة أخرى بين القيسية واليمنية.
الصميل بن حاتم
وعجل أبو الخطَّار إلى لقاء الصَّمِيل وقومه القيسية، وكان اللقاء عند وادي لكة في رجب 127هـ= إبريل 745م[8]، وقد تفرَّق جمع أبي الخطَّار بعد أن تقاعس الكلبيون عن قتال بني عمومتهم من اللخميين والجُذَاميين، ووجد أبو الخطَّار نفسه وحيدًا، فعزم على الفرار إلى قُرْطُبَة، ولكن الصَّمِيل قبض عليه وسجنه وخلعه، وولَّى مكانه ثَوَابَة بن سلامة الجُذَامي عام (128هـ=745م)[9]، فاجتمع رجال اليمنية من أنصار أبي الخطَّار لنصرته، واستطاعوا التغلُّب على حُرَّاسه، وأخرجوه من سجنه بقُرْطُبَة، فأقام بين قبائل كلب وحمص، واعترفوا به واليًا شرعيًّا على الأندلس، وبدأ أبو الخطَّار يأخذ خطوات عملية نحو استعادة مُلكه الضائع، الذي سلبه منه القيسية بزعامة الصَّمِيل، وتوجَّه بجموعه إلى قُرْطُبَة ليأخذها، فخرج إليه ثَوَابَة بن سلامة، فتفرَّق الناس عن أبي الخطَّار، وانسحب بجيشه، ليُعِيدَ الكرة مرَّة أخرى[10].
ولم ينعم ثَوَابَة بن سلامة بمُلك الأندلس طويلاً؛ فقد وافاه الأجل بعد عام من ولايته في المحرم (129هـ=746م)، وبقيَت الأندلس أربعة أشهر بعده دون والٍ، مع أن الصَّمِيل يستطيع أن يُنَادي بنفسه واليًا، إلاَّ أنه لم يفعل، واكتفى برصد اللعبة السياسية وإدارتها من وراء الستار[11].
وقد تميزت هذه الفترة من عهد الولاة بكثرة المرشَّحين للولاية، ولكلٍّ منهم أتباعه، فهذا أبو الخطَّار الكلبي، وهذا يحيى بن حريث الجُذَامي، وهذا عمرو بن ثَوَابَة مدعيًا أنه أحق بالولاية بعد أبيه، وفوق ذلك كله كان عقل الصَّمِيل بن حاتم وتدبيره، وليس أدلَّ على ذلك قوله: «نُقَدِّم رجلاً يكون له الاسم ويكون لنا الحظُّ»[12].
الصميل بن حاتم ويوسف الفهري
معركة شقندة
وزحف أبو الخطَّار ويحيى بن حريث ناحية قُرْطُبَة، وعسكر الجيش عند نهر قُرْطُبَة (الوادي الكبير) عند قرية شقندة، وعبر الصَّمِيل والفِهْرِيّ وجنودهما إليهما، ودارت معركة شقندة (130هـ=747م)[16]، وقد استمرَّ القتال سجالاً بين الفريقين، حتى استعان الصَّمِيل بعَوَامِّ السُّوقِ وغوغائها، فاشترك أربعمائة منهم في القتال، ليس لهم همٌّ إلاَّ القتل، فلمَّا رأى اليمنيون ذلك دبَّ الرعب في قلوبهم، وخارت عزائمهم، وأثخن القيسية فيهم القتل، وكان منهم عمرو بن حريث وأبو الخطَّار الكلبي الذي قُتِلَ بعد أن وقع في الأسر، وأراد الصَّمِيل أن يشفي غليله وأحقاده من اليمنية، فأمر بالأسرى أن يُقتلوا صبرًا، فقُتِلَ منهم سبعون، ثم تَدَخَّل حليفه أبو العطاء الجُذَامي فأمره أن يكُفَّ عن المذبحة فكَفَّ[17]، وهكذا كُسرت شوكة اليمنية في الأندلس ودانت البلاد لأمر الفِهْرِيّ والصَّمِيل، لا ينازعهما فيها أحد.
ولاية يوسف الفهري الفعلية على الأندلس
ولكن لماذا وافق الصَّمِيل على عرض الفِهْرِيّ وقَبِلَ هذا الإبعاد المتعمَّد؟!
كانت بلاد الأندلس تمرُّ بفترة قحط ومجاعة عظيمة؛ نتيجة للحروب
المتزايدة بين العرب اليمنية والقيسية، وبين العرب والبربر، ودامت هذه
المجاعة خمس سنوات (131-136هـ=749-755م)، وقد سلم من هذه المجاعة إقليم
سَرَقُسْطَة، فكان في حالٍ من الرغد والخير؛ لذلك قَبِل الصَّمِيل العرض،
كما أن الصَّمِيل فطن إلى أن يوسف الفِهْرِيّ ما بعثه إلى سَرَقُسْطَة
إلاَّ ليذل به اليمنية وهم أكثر أهلها، إلاَّ أن الصَّمِيل فتح خزائنه ولم
يأتهِ صديق ولا عدوٌّ إلاَّ أعطاه[18]. خلا الجوُّ للفِهْرِيِّ في قُرْطُبَة، فلم يَعُدِ الصَّمِيل وصيًّا عليه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ كان ضعيف الشخصية ولم يكن له في أمور السياسة، فثار الناس عليه، وخرج عليه عامر بن عمرو العَبْدَرِيُّ، وهو يمني[19] خاف أن يفعل الصَّمِيل باليمنية في سَرَقُسْطَة ما فعله بهم في شقندة وما بعدها، وكان باستطاعة يوسف الفِهْرِيِّ أن يقضي عليه في قُرْطُبَة إلاَّ أن جبنه وتردُّده حال دون ذلك؛ إذ رأى أن يأخذ برأي الصَّمِيل أولاً، فنصحه الصَّمِيل بقتله، وفطن عامر العَبْدَرِيُّ لمحاولة يوسف الفِهْرِيِّ قتله، فصرف عامر العَبْدَرِيُّ نظره عن قُرْطُبَة، وأراد أن يقوم بعمل يقضي به على شوكة الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيِّ، وبما أن الرجل كان يمنيًّا متعصبًا، فقد فكَّر في الالتجاء إلى اليمنية في سَرَقُسْطَة، والتحالف معهم على القضاء على القيسية، فكاتب زعيمًا من زعمائهم وهو الحباب الزهري، فاجتمعت كلمة اليمنية، وعزموا على حصار الصَّمِيل في سَرَقُسْطَة، وذلك في عام (136هـ=753م) [20].
فلما اشتدَّ الحصار على الصَّمِيل بعث إلى يوسف الفِهْرِيِّ يطلب نجدته وعونه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ تباطأ في الردِّ عليه، ويبدو أن الفِهْرِيَّ كان سعيدًا مسرورًا؛ لأنه سيتخلَّص من وصاية الصَّمِيل الثقيلة عليه، إلاَّ أن أتباع الصَّمِيل من القيسيين جمعوا جموعهم لنصرة زعيمهم الصَّمِيل، وانضمَّ إليهم نفر من بني أمية ومواليهم –لغرض غامض سنكشفه بعد قليل- وكان على رأسهم أبو عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد[21].
وانطلقت جموع القيسية ومعهم بنو أمية ومواليهم لنجدة الصَّمِيل، وما كادت تصل طلائعها حتى جزع المحاصِرون ورفعوا الحصار عن الصَّمِيل، وعلى الفور انطلق الصَّمِيل ناحية قُرْطُبَة، ثم هاجم عامر العَبْدَرِيُّ والزهري سَرَقُسْطَة فاستوليا عليها، ثم أن الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيّ هاجما المدينة، ووقع العَبْدَرِيُّ والزهري في قبضة الصَّمِيل الذي أمر بقتلهما[22].
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص 45، وابن عذاري: البيان المغرب 31، 32، والمقري: نفح الطيب 3/19.
[2] مجهول: أخبار مجموعة ص45-47، وابن عذاري: البيان المغرب 1/56، 2/32، والمقري: نفح الطيب 3/22.
[3] مجهول: أخبار مجموعة ص47، وابن عذاري: البيان المغرب 2/32، والمقري: نفح الطيب 1/237، 3/22.
[4] مجهول: أخبار مجموعة ص48، وابن عذاري: البيان المغرب 2/33، 34، والمقري: نفح الطيب 1/237، 3/22.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص48، 49، والمقري: نفح الطيب 3/22، ومحمد سهيل
طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص91، 92، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص189،
190.
[6] مجهول: أخبار مجموعة ص57، وابن عذاري: البيان المغرب 2/34، والمقري: نفح الطيب 3/23.
[7] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35.
[8] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24.
[9] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24، 95، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص194، 195.
[10] مجهول: أخبار مجموعة ص58، 59، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24.
[11] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35،
والمقري: نفح الطيب 3/25، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص97.
[12] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/25.
[13] محمد سهيل طقوش تاريخ المسلمين في الأندلس ص98.
[14] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35.
[15] مجهول: أخبار مجموعة ص59، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36.
[16] مجهول: أخبار مجموعة ص60، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36،
والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/25، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في
الأندلس ص99، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص197، 198.
[17] مجهول: أخبار مجموعة ص60، 61، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36، 37، والمقري: نفح الطيب 3/25، 26.
[18] مجهول: أخبار مجموعة ص62، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37.
[19] مجهول: أخبار مجموعة ص63.
[20] مجهول: أخبار مجموعة ص63، 64، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37،
والمقري: نفح الطيب 1/238، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص102، 103،
وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص201.
[21] مجهول: أخبار مجموعة ص65.
[22] مجهول: أخبار مجموعة ص65-67، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37،
والمقري: نفح الطيب 1/238، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص102، 103،
وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص202، 203.
إرسال تعليق