لماذا نكتب في التاريخ؟
لأن هذا الكون وكل ما فيه يسير على سُنَنٍ ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وأننا في حاجة لإدراك هذه القوانين؛ كي نتمكَّن من استعمال نِعَمِ الله الكثيرة التي خلقها وسخَّرها لنا في هذا الكون؛ بل لكي نستطيع أن نحيا الحياة الصحيحة باستيعابنا للتجارب السابقة التي جرت عليها سنن الله في كونه، ذلك أن هذه السنن لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل، قال تعالي: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
إنها قاعدة قرَّرها الله I في كتابه، وجعلها -أيضًا- من سننه الثوابت، التي يمكن للجميع إدراكها واستغلالها؛ ومن أبسط الأمثلة العملية على هذا: أننا نجد أن الماء يغلي عند درجة مائة مئوية، وسيظلُّ يغلي عند هذه الدرجة إلى يوم القيامة، فمن رحمته I أن ثَبَّت لنا هذا الأمر؛ إذ لو كان الماء يغلي اليوم عند درجة ثلاثين -مثلاً- وغدًا عند درجة خمسين، وبعد غدٍ عند سبعين فلن تستقيم حياة الناس، ولن تستقرَّ أمورهم؛ لأن كل يوم مغاير للآخر، وكل شكلٍ فيه تبدُّل وتحوُّل لم يُعهَد من قبل.
كذلك النار؛ تحرق وستظلُّ تحرق إلى يوم القيامة..
صحيح أن ثمة استثناءات لا يُبنى عليها، فتلك النار التي من أهمِّ خصائصها الإحراق لم تحرق إبراهيم ، فهذا استثناء أو هي معجزة، والمؤمن الكيِّس لا ينتظر المعجزات ولا يبني على الاستثناءات، ولا يتخذها قواعد، إنما يبني على القوانين التي يمكنه أن يُدرك بنفسه أنها ثابتة؛ إن أحدًا لا يمكنه أن يضع يده -مثلاً- في النار! ثم يقول: قد يحدث لي مثلما حدث لإبراهيم . فذلك غير جائز، ولا يصحُّ أن يتفوَّه به أحدٌ؛ لأنه لا يتوافق مع سُنَنِ الله التي أقرَّها في كونه، وقِسْ على ذلك ما شئت؛ فالإنسان والحيوان بصفة عامَّةٍ لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو شراب، ولو امتنع أي إنسان عن الطعام والشراب فترة فمآله -لا محالة- إلى الموت.
التاريخ والواقع
فأنت حين تقرأ تاريخ الماضي فكأنك تقرأ أحداث المستقبل بتفصيلاتها؛ ذلك أن أحداث المستقبل هذه لن تتمَّ إلاَّ على هذه السنن الثابتة، التي جعلها الله في تبديل الأمم وتغيير أحوالها؛ فانظر في أي طريق تسير الآن لتعرف إلى أي مصير ستصل، والمؤمن العاقل هو الذي لا يبدأ من الصفر فيُكَرِّر كل ما فعل السابقون، وإنما يقف أمام تاريخهم فيسير على درب مَنْ أصاب فأفلح، ويبتعد عن طريق المخطئين الخاسرين.
وفي تاريخ الأندلس خير دليل على هذا؛ لذلك فنحن نحاول تحليل هذا التاريخ تحليلاً دقيقًا؛ نحاول أن نُقَلِّب صفحاتٍ ونُظهر أحداثًا قد علاها التراب أعوامًا وأعوامًا، نحاول أن نُظهر ما حاول الكثيرون أن يطمسوه، أو يُخرجوه لنا في صورة باطلٍ وهو حقٌّ، أو في صورة حقٍّ وهو باطلٌ؛ فكثيرٌ يحاولون أن يُزوِّروا تاريخنا الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جدُّ خطيرة، يجب أن يُتصدَّى لها.
لماذا تاريخ الأندلس؟
والأمر الآخر أن تاريخ الأندلس لطول فترته، مرَّ فيه كثير من دورات التاريخ التي اكتملت ثم انتهت، فسنن الله في تاريخ الأندلس واضحة للعيان؛ فقد قام فيه كثير من الدول وارتفع نجمها، وسقط فيه -أيضًا- كثير من الدول وأفل نجمها، كثير من الدول أصبحت قوية؛ ومن ثَمَّ راحت تفتح ما حولها من البلاد، وكثير منها أصبحت ضعيفة، وأصبحت لا تستطيع حماية أرضها، أو تعتمد على غيرها في حمايتها؛ مثلما يحدث الآن، وظهر -أيضًا- في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، وظهر الخائف الجبان، ظهر التقيُّ الورع، كما ظهر المخالف لشرع ربه I. ظهر في تاريخ الأندلس الأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، وكذلك الخائن لنفسه ودينه ووطنه، ظهرت كل هذه النماذج، وتساوى فيها الجميع؛ حاكم ومحكوم، عالم وأمِّيٌّ.
وما من شكٍّ أن دراسة مثل هذه الأمور يُفيد كثيرًا في استقراء المستقبل للمسلمين.
أحداث في تاريخ الأندلس
ومن الضروري -أيضًا- أن نعلم هل قصة حرق السفن -التي يُقال: إنها حدثت في عهد طارق بن زياد -رحمه الله- حقيقة أم من نسج الخيال؟ كثير من الناس لا يعلم حقيقة وتفاصيل هذه القصة، وكيف حدثت، إنْ كانت قد حدثت؟ وإذا لم تكن حدثت في الأصل فلماذا انتشرت بين الناس؟!
ثم يجب أن نعرف مَنْ يكون عبد الرحمن الداخل -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.
كما يجب أن نعرف مَنْ هو عبد الرحمن الناصر، أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى على الإطلاق؛ ويجب أن نعرف كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية؟ وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في عصره؟
وكذلك يوسف بن تاشفِين -رحمه الله- القائد الرباني، صاحب موقعة الزلاقة، يجب أن نعرفه ونعرف كيف نشأ؟ وكيف ربَّى الناس على حياة الجهاد؟ وكيف تمكَّن من الأمور؟ بل وكيف ساد دولةً ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من فتراتهم؟
وأبو بكر بن عمر اللمتوني.. هذا المجاهد الذي دخل الإسلامَ على يده أكثرُ من خمس عشرة دولة إفريقية.
ومن المهم -أيضًا- أن نتعرَّف على أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، صاحب موقعة الأركِ الخالدة؛ تلك التي دُكَّت فيها حصون النصارى، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا.
كما يجب أن نعرف دولة المرابطين وكيف قامت؟ ودولة الموحدين وكيف قامت؟
ومن الضروري أن نعرف مسجد قُرْطُبَة، ذلك المسجد الذي كان يُعَدُّ أوسع مساجد العالم، وكيف حُوِّل إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟! وكذلك مسجد إِشْبِيلِيَة ينبغي أن نعرفه.
وينبغي أن نعرف جامعة قُرْطُبَة والمكتبة الأموية، وقصر الزهراء ومدينة الزهراء..
ينبغي أن نعرف قصر الحمراء، وغيرها من الأماكن الخالدة التي أمست رسومًا وأطلالاً، وهي اليوم في عِدَاد أفضل المناطق السياحية في إسبانيا، وتُزار من عموم الناس؛ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
موقعة العقاب تلك التي مُنِيَ فيها المسلمون بهزيمة ساحقة، رغم تفوُّقهم على عدوِّهم في العدد والعُدَّة، وكأنَّ موقعة حُنَيْن عادت من غابر التاريخ؛ لتروي أحداثها في موقعة العقاب، تلك الموقعة التي قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُرَ في الأندلس شابٌّ صالحٌ للقتال.
كما يجب أن نعرف كيف سقطت الأندلس؟ وما عوامل السقوط؟ التي إن تكرَّرت في أُمَّة من المسلمين سقطت لا محالة بفعل سنن الله الثابتة.
ثم كيف وأين سطعت شمس الإسلام بعد سقوط الأندلس؟ كيف جاء غروب شمس الإسلام في الأندلس -في غرب أوربا- متزامنًا مع إشراقها وسطوعها في القسطنطينية شرق أوربا؟
كما يجب ألاَّ ننسى مأساة بَلَنْسِيَة، وكيف قُتِل ستون ألف مسلم في يوم واحد؟ وما أحداث مأساة أُبَّذَة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم آخرون في يوم واحد؟
ثم يجب أن نذكر دائمًا مأساة بَرْبُشْتَر، وكيف قُتل أربعون ألف مسلم في يومٍ واحدٍ، وسُبيت سبعة آلاف فتاة بِكْر من فتيات بَرْبُشْتَر؟! وقد شاهدنا هذه الأحداث الغابرة تُعِيد التحدُّث عن نفسها في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين.
لو عرفنا هذا كله، وعرفنا ردَّ فعل المسلمين، وكيف قاموا من هذه المآسي المفزعة، لعرفنا كيف ننهض الآن ونقوم.
تساؤلات في التاريخ الأندلسي
كما أن بعض الأسئلة ستظلُّ بلا إجابة؛ لأن بعض فترات الأندلس تعاني من ندرة في المصادر، ذلك أنه -وحتى هذه اللحظة- ما زال الكثير من نفائس وذخائر التراث الإسلامي الأندلسي والمغربي في حكم المفقود؛ فإما هي كتب مفقودة بالكامل لا يُعرف إلى أين أخذتها يد الزمان، كما أن كثيرًا من النفائس ما زالت في هيئتها المخطوطة، وتحتاج إلى أن تمتد إليها أيدي العلماء والباحثين لتحقيقها وضبطها وإخراجها إلى عالم المطبوع؛ فيسهل انتشارها والاستفادة منها.
إلى جانب هذا، فإن المؤرخين -حين يكتبون- فإنما يكتبون الوقائع وعليها ثوب من رؤيتهم وتحليلهم وتفسيرهم لها، ولا شكَّ أن المؤرخ بشرٌ يناله النقص والخطأ وعدم الاستيعاب، ولئن كان تاريخنا الإسلامي قد تميز بوجود مؤرخين لا يترددون في أن يذكروا للشخصية العظيمة مثالبها، وأيضًا يذكرون للشخصية السيئة محاسنها، فإن هؤلاء المؤرخين -أيضًا- ما زالوا بشرًا، تُؤَثِّر صياغاتهم ومواقفهم وميولهم على التحليل والتفسير للوقائع التاريخية.
لكننا اجتهدنا ما وسعنا الجهد في التقريب والتفسير والترجيح بين ما تعارض من الروايات التاريخية، محاولين الوصول إلى ما نراه الحق، راجين أن يجبر الله عثراتنا، وأن يتقبل منا أعمالنا بقبول حسن.
الأندلس – الفردوس المفقود
إن تاريخ الأندلس بصفحاته الطويلة -أكثر من ثمانمائة عام- يُعَدُّ ثروةً حقيقية.. ثروة ضخمة جدًّا من العلم والخبرة والعِبرة، ومن المستحيل في هذه الدراسة أن نُلِمَّ بكل أحداثه وتفصيلاته، بل لا بُدَّ وأن نُغفِل منه بعض الجوانب؛ ليس تقليلاً من شأنها وإنما اختصارًا للمساحة.
ومن الواجب على الجميع أن يبحث في تاريخ الأندلس -تاريخ ثمانمائة عام- إذ هو يحتاج أكثر وأكثر مما أفردنا له.
إرسال تعليق
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.