قال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.. [آل عمران : 147].

فكأن ما حدث نتيجة لذنب تقدم ففطنوا إلى السبب، كان المفروض أنهم في معركة، وهذه المعركة أجهدتهم وأنهكتهم، صحيح أنهم لم يضعفوا، وكان المفروض أن يقولوا: (يارب انصرنا أولا) لا. بل قالوا: لابد أن نعرف السبب في النكسة الأولى، السبب في هذه النكسة أن الله لم يسلمني إلى نفس إلا لأني نسيته.

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا}، {ربَّنَا}، وانظر لكلمة النداء في {ربَّنَا}، كان يمكن أن يقولوا: يا ألله إنما جاءوا بكلمة (ربنا) لماذا؟ لأن علاقة العبد بالربوبية هي قبل علاقته بالألوهية، فالألوهية مكلفة، فمعنى (إله) أي: معبود، وما دام معبودا فله تكليف يطاع فيه، وهذا التكليف يأتي بعد ذلك، هو سبحانه له ربوبيته في الخلق. قبل أن يكلفهم، وما دام الرب هو الذي يتولى التربية، فالأولى أن يقولوا: يارب، إذن قولهم: (ربنا) يعني أنت متولي أمورنا، أنت الذي تربينا.

{ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فكأنه لا شيء يصيبنا إلا بذنب من الغفلة ارتكبناه. ونعرف من كلمة (ذنب) أن الذي يفطن إلى معناه لا يفعلها أبدا، لأن كلمة (ذنب) مأخوذة من مادة (الذَنَب). والذَّنْبُ سيأتي بعده عقوبة. فاللفظ نفسه يوحي بأن شيئا سيأتي، وعندما تتذكر عقاب الذنب فأنت لا تفعله.

{اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} لأن كل معصية تكون تجاوزا عما أَحلَّه الله لك، وزيادة غير مشروعة وإن كانت من نوع ما أحله الله، ولكنها زيادة عن مقومات حياتك، فالله شرع لنا الزواج لنأتي بالأولاد، وعندما نأخذ أكثر من هذا من غير زواج نكون قد أسرفنا، والله أعطانا مالا بقدر حركتنا، فإن طمعنا في مال غيرنا فقد أسرفنا. (وأسرفت) يعني أن تأخذ حاجة ليست ضرورية لقوام حياتك ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}.. [الزمر: 53].

إنه سبحانه يوضح: أنا حللت لك كذا من النساء فما الذي جعل عينيك تزوغ وتميل إلى غير ما أحله الله لك؟ أنا أحللت لك كسب يدك وإن كنت فقيراً فستأخذ صدقة، لماذا أسرفت؟ إذن فكل أمر زائد على الحد المطلوب لبقاء الحياة اسمه (إسراف) {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}. لقد بدأوا يدخلون في الحق، لكنهم في البداية رَأَوْا الباطل، والباطل هو من أسباب تخلي الحق عن نصرتنا أولا، لكن عندما يغفر سبحانه الذنب ويغفر الإسراف في الأمر نكون أهلاً للمدد وأهلاً لتثبيت الله.

{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} كيف يقول الحق ذلك والمفهوم في المعركة أن الأقدام لا تثبت؟ المعركة تطلب من المقاتل أن يكون صوالاً جوالاً متحركا، إذن فما معنى {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}؟ إن قول الحق: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} يعني لا تجعلنا نفر من أرض المعركة، ولا نترك أرض المعركة أبدا.

ولذلك قلنا: إن الكفار عندما حدث منهم ما حدث لم يظلوا في ارض المعركة، بل تركوا أرض المعركة وانصرفوا، وهؤلاء المؤمنون ولو أنهم انهزموا إلا أنهم مكثوا في أرض المعركة مدة، وكروا وراء أعدائهم وطاردوهم. وقد اهتدى البشر أخيراً إلى هذا المعنى، ففي فرنسا نيشان يسمونه (نيشان الذبابة) لماذا الذبابة؟ لأن الذبابة إن طردتها عن مكان لابد أن تعود إليه، فكذلك المفروض على القائد- ما دام انسحب من منطقة- أن يوطن نفسه على العودة إليها، فيعطوه نيشان الذبابة.

فقوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في أي منطقة؟ وفي أي معركة؟ علينا ألا نبرح أماكننا؛ لأننا ساعة أن نبرحها فهذه أول هزيمة، وهذا أمر يُجَرِّئ العدو علينا.

{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين}. كلمة {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} هي حيثية، فما داموا قد قالوا: {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فهم إذن مؤمنون ومؤمنون بحق؛ ولذلك فإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قولته المشهورة: إنكم تنتصرون على عدوكم بطاعة الله، فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعُدتهم وعَددهم.

ولذلك فالإيمان يتطلب أن تنتبهوا إلى موطن الضعف فيكم أولا، والذي استوجب أن يصيبكم ما أصابكم، حقاً إنكم لم تضعفوا، ولم تستكينوا وأصابكم من المعركة شيء من التعب والألم. كأن الحق يوضح لنا أنهم قد تنبهوا فأحسنوا البحث في نفوسهم أولا، لقد تكلموا عن الذنوب وطلبوا المغفرة وتكلموا عن الإسراف على النفس، وبعد ذلك تكلموا عن المعركة. فماذا كان العطاء من الله؟

ويأتينا الجواب في قوله الحق: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان