تلك الحق في سورة النساء عن
الخلق الأول وأوضح: أنني خلقتكم من نفس واحدة وهي (آدم) وبعد ذلك خلقت
منها زوجها، ثم بثثت منهما رجالا كثيراً ونساء، والبث الكثير للرجال
والنساء لتستديم الخلافة للإنسان، لكن كيف يأتي ذلك؟ أوضح سبحانه: أريد
مجتمعاً قوياً، وإياكم أن يضيع فيه اليتيم. وبعد ذلك ما دمت أريد استدامة
هذا الاستخلاف فليأخذ الأيتام نصيباً، وتكلم سبحانه عن التركة، ثم تكلم عن
السفهاء غير المؤتمنين على مالهم، وبعد ذلك تكلم عن كيفية الزواج.
إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملاً؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي
دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر
أقوياء، أما تكاثر الضعاف فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بدأن تلاحظوه،
وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله، واجتهدوا
لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسهم على
الحركة. وأوضح سبحانه منهاج الميراث، وأمر سبحانه: أن تزاوجوا، لكن للتزاوج
شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا المنهج العام: {واعبدوا الله وَلاَ
تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً}، ووضح هذه الأحكام كلها.
وبعد ذلك ما الحكمة في أنه سبحانه يرجع بنا مرة
ثانية لليهود؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل
النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا: أن هناك ناساً ستعلم
الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، فإياكم أن تكونوا كذلك. واعلموا
أن هناك أناساً عندهم نصيب من الكتاب أيضاً، ويعلمون مثلكم تماماً، إنما
اشتروا الضلالة، إذن فهو شَرَح لنا؛ إنّه الواقع الملموس ولا يأتينا سبحانه
بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول: يحدث أو لا يحدث، إنّه يأتيك بأحداث من
واقع الكون، وينبهنا: إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال: {مِّنَ الذين هَادُواْ
يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} والتحريف: أنك تأتي باللفظ الذي
يحتمل معنيين: معنى خير، ومعنى شرّ، ولكنك تريد منه الشرّ، مثل الذي يقول:
(السام عليكم)- والعياذ بالله- هي في ظاهرها أنه يقول: السلام عليكم، لكنه
يقول: السام. يعني الموت، إذن ففي اللفظ ما يُلحظ مَلحظ الخير، ولكن العدو
يميله إلى الشرّ.
ومثل هذا ما قالوه للنبي: {قالوا راعنا} وهي من
المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر: اترك الكلمة
التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على الكلمة التي تحتمل التوجهين؛ لأن
المتكلم، قد يريد بها خيراً وقد يريد بها شرّاً، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا.
والمثال على ذلك: الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط
له قَباء- وكان الخياط كريم العين- أي له عين واحدة- فلم يُعجب الرجُل
بِخياطة القَباء فقال: والله ما دمتُ أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام
الناس فلابد أن أقول فيه شعراً يفضحه في الناس، فقال:
خاط لي عمرو قَباء *** ليت عينيه سواء
فقوله: ليت عينيه سواء يظهر ماذا؟. هل يا ترى
يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة؟ أو يتمنى أن تكون العين
السليمة مثل المريضة؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن
واحداً من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليّاً- كرم الله وجهه وآله-
وأن يلعنهم على المنبر.
فقال الخطيب: اعفني.
فقال الوالي: لا، عزمت عليك إلاَّ فعلت.
فقال له الخطيب: إن كنت عزمت على إلاّ فعلتُ، فسأصعد المنبر وأقول: طلب مني فلان أن أسب عليّاً فقولوا معي يلعنه الله.
فقال له: لا تقل شيئاً. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين.
والحق يقول: {مِّنَ الذين هَادُواْ
يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ}. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب
القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة إلى عبارة،
فيخيل لأصحاب النظر السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول
مرة: {يشترون الضلالة بالهدى} ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول:
{يَشْتَرُونَ الضلالة}، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا،
ومثال آخر هو قول الحق: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}..
[المائدة: 41].
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول
سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، فكأن المسألة لها
أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع- أولا- وضعه الحقيقي ثم أزالوه
وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس
من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما
اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه
كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم،
ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}. فهم
يقولون قولاً مسموعاً (سمعنا) ثم يقولون في أنفسهم (إنّا عصينا). فقولهم:
(سمعنا وعصينا) ففي نيتهم (عصينا)، إذن فقولهم (سمعنا) يعني سماع أذن فقط.
إنما (عصينا) فهي تعني: عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا
عصينا سِرّاً أو هم قالوا: سمعنا، وهم يضمرون المعصية، (واسمع غير مسمع)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يُسْمِعُكم، بدليل أنكم قلتم:
سمعنا، فماذا تريدون بقولكم: اسمع؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول
كلاماً لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوهاً
فتقلبونها إلى معانٍ لا تليق، مثل قولكم: (غير مُسْمع) ما يسرّك، أو (غير
مسمع) أي لا سمعت؛ لأنهم يتمنون له- معاذ الله- الصمم، وقد تكون سباباً من
قولهم: أسمع فلان فلاناً إذا سبّه وشتمه، فالكلام محتمل.
{واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً
بِأَلْسِنَتِهِمْ} لم يقولوا: (راعنا) من الرعاية بل من الرعونة، فقال: لا.
اتركوا هذا اللفظ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم و(اللي): هو فتل الشيء، والفتل: توجيه شقي الحبل
الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات
لماذا؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم.
{لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين}، وما داموا يلوون الكلام عن
الاستقامة فهم يريدون شرّاً، لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد
فماذا يرد؟.. إنه يريد {وَطَعْناً فِي الدين}، {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ
سَمِعْنَا}، وبدلاً من إضمار المعصية يقولون: {وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا}
بدلاً من (راعنا)، ف (انظرنا) لا تحتمل معنى سيئاً.
إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن
يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة
لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يوضح: احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي
يمكن أن تحول إلى شرّ. فلو قالوا سمعنا وأطعنا {واسمع وانظرنا لَكَانَ
خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن}، وساعة تسمع كلمة (لكن) فلتعلم أن
الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع؛ لأنه يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ
قَالُواْ}، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع.
{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ}
و(اللعن) هو: الطرد والإبعاد، فهل تجنىَّ الله عليهم في لعنهم وطردهم؟ لا.
هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد: لماذا لعنهم الله وطردهم
وما ذنبهم؟ نقول: لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم،
وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.
{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ
يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}. وساعة تسمع نفي حدث (لا يؤمنون) ثم يأتي
استثناء (إلا)، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلاً لا يأكل إلا قليلاً، كلمة
(لا يأكل) نفت الأكل، (وإلا قليلاً) أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول:
{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}. والإيمان حدث يقتضي محدثاً هو: من
آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول: هذا الاستثناء
صالح أن يكون للحدث، وصالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة {فَلاَ يُؤْمِنُونَ
إِلاَّ قَلِيلاً} تعني: فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً؛ لأنهم يؤمنون
قليلاً بالصلاة، وبأنهم لا يعملون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان
فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلاً فقد يكون بعض منهم
هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد
أيضاً أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم قليلاً بالحدث
نفسه.
وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وتُلى القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وُصف عندهم تماما
فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، أو آمن قليل منهم؟ آمن قليل منهم مثل: عبد
الله بن سَلاَم، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صُورْيَا، وكعب بن أسد،
وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.
إذن فإن أردت أن بعضاً (قليلاً منهم) هو الذي
آمن فهذا صحيح، ويصح أيضاً أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب
ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه (صيانة
الاحتمال)؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز- وهذا ما حدث-
أن هناك أناساً من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو
قال: (فلا يؤمنون) فقد لكان من الصعب عليهم أن يعلنون الإيمان- لكن عندما
يقول: (إلا قليلاً) فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا
الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان.
إرسال تعليق