قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}.. [آل عمران : 151].

وألقى الحق في قلوبهم الرعب بالفعل. فساعة قالوا لأبي سفيان: إن محمداً قادم إليك بجيش كثيف من المدينة، وانضم له مقاتلون لم يحاربوا من قبل، وقادم إليكم في حمراء الأسد. ماذا صنع أبو سفيان وقومه؟ ألقى الله الرعب في قلوبهم وفروا.

وكلمة {سَنُلْقِي} مأخوذة من (الإلقاء) وهو لا يكون إلا لمادة وعين. ويبين لنا القرآن هذا الأمر حين يقول: (فألقى الألواح)، هذه حاجة مادية. قال تعالى: {وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني}.. [الأعراف: 150].

إنه أمر مادي.. ونحن نقول: ألقى الحجر. والحق سبحانه يقول: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون}.. [الشعراء: 44].

إنها حبال، أي أمر مادي. وسبحانه وتعالى يقول عن الوحي لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}.. [القصص: 7].

فالإلقاء أمر مادي، كأن الله يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا، فقال: أنا سأجمع الرعب وأضعه في القلب، ويكون عمله ماديًّا. فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور، وإذا سكن الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذلا، فيقول: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكأنه مثل لنا الرعب، والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء، فأوضح: بأنه سيأتيهم بالرعب ويلقيه في القلب، فيبقى به ليصنع الخور والخذلان.

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} انظروا إلى التعابير الصادرة عن الله إنه هنا يأتي بـ(نون العظمة)، {سَنُلْقِي} ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى ساعة يتكلم عن أمر يحتاج إلى فعل فهو سبحانه يأتي بـ(نون العظمة) كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.. [الحجر: 9].

ولأن إنزال الذكر عملية عظيمة، فنأتي بـ(نون العظمة). لأننا سننزله بقدرة وسننزله بحكمة، وننزله بعلم وننزله ببصر، وننزله بقيومية، وننزله بقبض وننزله ببسط، فقوله: {إِنَّا نَحْنُ} فكأن نون العظمة تأتي هنا، لكن ساعة يتكلم سبحانه عن الذات العلية فهو يقول: (إنني أنا الله). لم يقل إننا، ولكن في الإنزال يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر}.. [القدر: 1].

لأن هذه عملية عظيمة جليلة؛ فـ(نون العظمة) تأتي فيما يكون من شأنه حدث يٌفعل؛ وهذا الحدث الذي يٌفعل يحتاج لصفات كثيرة، ولذلك قلنا ساعة تبتدئ أيُّ عمل تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) لماذا؟ لأن العمل الذي ستعمله يحتاج إلى قدرة عليه، ويحتاج إلى علم قبل أن تعمله، ويحتاج إلى حكمة، أي أنه يحتاج إلى صفات كثيرة، فأنت تدخل على العمل باسم القادر الذي يُقْدِرُك؛ وباسم العليم الذي يعلمك، وباسم الحكيم الذي يحكمك.

وكل هذه الصفات ستتكاتف في إيراز العمل كي يرحمك حتى في الاستعانة، فلا يقول لك: هات الصفات كلها التي يحتاج إليها فعلك؛ لأن هناك صفات أنت لا تعرفها، فيقول لك: هات الاسم الجامع لكل صفات الكمال. قال: (باسم الله)، وهي تضم كل صفات الكمال.

إذن فأنت تلاحظ انك إذا رأيت (نون العظمة) التي نسميها (نون الجمع) نجد أننا نقول: (نحن) للجماعة. أو للمتكلم الواحد حين يعظم نفسه، ولذلك نلاحظها حتى في قانون البشر، ألم يقولوا في الملكية: (نحن الملك)، وهذه النون بالنسبة لله ليست نون الجماعة. إنما هو (نون العظمة)، العظمة الجامعة لكل صفات الكمال التي يتطلبها أي فعل من الأفعال، لذلك قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكل قلب به كفر يحتاج إلى إلقاء الرعب فيه. إذن فتأتي نون العظمة لتستوعب كل هذه القلوب الكافرة؟.

وهو سبحانه لا يتجنى عليهم بالقاء الرعب، ولكن هم الذين استحقوا أن يلقى في قلوبهم الرعب، لماذا؟ (بما أشركوا). إن الإشراك بالله هو الذي جاء لهم بالرعب؛ لأن الله يفعل، والشركاء لا يفعلون. ولو أن شركاءهم حق لما تخلوا عنهم. فلماذا لم يأتوا بشركائهم لينصروهم؟ لقد جاءهم الرعب لأنهم ليس لهم مولى، ولو كان لهم آلهة قادرة- كما يدعون- لقالوا لتلك الآلهة: رب محمد يعمل معنا هكذا فلماذا لا تقفون له يا أربابنا؟ لكنهم أشركوا بالله ما لا يضر ولا ينفع، بل ضره أقرب من نفعه.

{بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة (السين واللام والطاء) ونقول: فلان تسلط على فلان، أي أرغمه بقدرته عليه. ويقولون: فلان سليط اللسان، أي قادر أن يسب، إذن فالسلطة هي: القهر، والقوة التي ترغم على الفعل، وفي المعنويات هي الحجة والبرهان، والمؤمنون دائما ذوو سلطان من الله؛ لأنهم إن انتصروا ماديا فذلك سلطان القهر، وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل؛ ولذلك قلنا سابقا: إن إبليس يأتي يوم القيامة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ}.. [إبراهيم: 22].

وقلنا إن السلطان نوعان: إما قوة تقهرنا على أن نفعل المعصية، وإما برهان ودليل يجعلنا نفعل المعصية.

والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير راض عن الفعل. أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك، فمرة يأتي السلطان بمعنى: قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت مرغم.

إنما قوة الدليل تقنعك أن تفعل، فيأتي الشيطان ليقر على نفسه في الآخرة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي ليس معي قوة تقهركم على المعصية وليس معي دليل يقنعكم حتى تفعلوا المعصية، لا هذا ولا ذاك، فما الحكاية إذن؟ قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي}. أي إنكم أطعتموني واستجبتم لدعوتي بلا سلطان قوة أقهركم به على شيء، ولا سلطان دليل أقنعكم به.

ويذيل الحق الآية بقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين} أي أن المرجع الذي يأوون إليه هو النار، والمأوى؛ هو الموضع الذي ترجع أنت إليه. وكأن في هذا المرجع ذاتية من الكافر تلقيه على النار فهو- أي الكافر- مأواه ومثواه الذي يرجع إليه. ولذلك يجب أن نفطن إلى قوله الحق في بعض الأساليب: (وإليه تَرجَعون) وقوله: (وإليه تُرجعون). {وَبِئْسَ مثوى الظالمين}.. أي مثوى لا مفر بعده أبدا، فكل مثوى من الجائز أننا نرحل عنه، لكن المثوى الذي سيبقى خلودا للظالمين هو النار وهو بئس المثوى. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ ما أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ...}.

المصدر: موقع نداء الإيمان